منذ فترة طويلة والصور الجوية وصور القمر الصناعي تخدم منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان إذ تمدّها بأدوات توثيق هامة. فمنذ التطبيقات الأولى لتوثيق المقابر الجماعية وتحركات اللاجئين، تزايد فهم الحقوقيين للسبل التي يمكن من خلالها أن تساعد تكنولوجيا المعلومات المكانية/الجغرافية في توثيق الانتهاكات في مناطق النزاع التي يصعب الوصول إليها، وفي إظهار التغييرات على مرّ الزمن في مناطق بعينها، وتأكيد شهادات الشهود. مع ربط صور القمر الصناعي الرقمية بمنصات رسم الخرائط مفتوحة المصدر، أصبح بالإمكان تنفيذ مشروعات تعاونية مبتكرة مثل "بيلينغ-كات" و"مشروع التحقق من مقاطع الفيديو"، فضلًا عن جهود التوثيق التي تقودها المجتمعات المُعرّضة للانتهاكات، مثل الجهود التي ينسقها مشروع "الديمقراطية الرقمية". حتى الآن، لم يصل إلا النذر اليسير من هذه الأنشطة والمشروعات إلى مجال التقاضي الحقوقي، لكن البحوث التي نفذها مشروع المسؤولية العلمية وحقوق الإنسان والقانون بالجمعية الأمريكية لتقدم العلوم تتيح لنا الحصول على رؤى حول الأثر المحتمل لاستخدام التحليل العلمي والتقنيات الجديدة في محاكم حقوق الإنسان.
وفي تقرير أصدرناه مؤخرًا، استعرضنا 26 قضية تنظرها محاكم دولية والتي جرى فيها استخدام تكنولوجيا المعلومات المكانية/الجغرافية في تحضير الأدلة على وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان. غطّت هذه القضايا جملة من مجالات حقوق الإنسان: الاختفاء القسري، الإعدام الميداني بمعزل عن القضاء، الإخلاء القسري، الإبادة الجماعية، تدمير التراث الحضاريّ، حقوق الأفراد النازحين جراء النزاع في العودة، حقوق الأرض للشعوب الأصلية، والحق في عدم الإعادة القسرية. وبغض النظر عن المحكمة أو السياق الخاص بالقضايا –إذ تم النظر في بعضها أمام محاكم جنائية، في حين تم النظر في بعض القضايا الأخرى أمام محاكم إقليمية لحقوق الإنسان – فما جعل الأدلة مُقنعة ودامغة لم يكن التكنولوجيا في حد ذاتها، وإنما مصداقية الشخص الذي شرح ما تعرضه الصور. فقد تم قبول أدلة المعلومات المكانية/الجغرافية بصفتها ذات قيمة ثبوتية فقط في القضايا التي رأت فيها المحكمة أن الشاهد الخبير موثوق وقابل للتصديق. وبالمقارنة، فعندما حاول الادعاء في بعض القضايا إدخال صورة قمر صناعي ضمن شهادة شاهد من الضحايا، لا شاهد خبير، رفضت المحكمة الصورة.
هذه المعلومة الأخيرة هامّة لأن العمل الحقوقي قد أصبح على وشك دمج وتعميم استخدام البيانات والتحليلات المكانية/الجغرافية بشكل كامل. وأكبر الجهات التي تتيح صور القمر الصناعي حاليًا هي الشركات الخاصة، لا الهيئات الحكومية (وإن ظلّت الحكومات مصدرًا مهمًا للغاية للبيانات المكانية/الجغرافية). وهناك منصات تجميعية تسمح للأفراد بربط البيانات التي يتم جمعها عن طريق الهواتف الذكية بالصور التي تتيحها هذه الجهات غير الحكومية، مع توفير منصات رسم خرائط مفتوحة المصدر، مقرونة بالبيانات التي تم تجميعها عن طريق الطائرات بدون طيار وغيرها من الطائرات، القادرة على حمل معدّات جسّ ورصد يزيد تضاؤل حجمها بشكل مُطرد. وفي الوقت نفسه تلوح في الأفق أيضًا أدوات جديدة لعرض البيانات بصيغة صور مرئية. وهناك بعض المنظمات الحقوقية التي بدأت بالفعل في استكشاف التقنيات الجديدة، كتقنيات الواقع الافتراضي، لأغراض التعريف بقضايا حقوق الإنسان وتسليط الضوء عليها. غير أن التقنيات والأدوات المكانية/الجغرافية المُتاحة لتحليل البيانات المرصودة عن بُعد تتطور بسرعة هائلة، لدرجة أنّه كلما فهم المحامون والقضاة والمنظمات تقنية من التقنيات، تظهر تقنية جديدة تفوقها تطورًا. إنّ على الممارسين لحقوق الإنسان فهم قيود وحدود أدوات التوثيق المُتاحة، وأن يقاوموا اللجوء لاستخدام الأدوات الأخرى لمجرد أنها جديدة أو "أصبحت رائجة الآن". ولأن التحليل المكاني/الجغرافي يؤدي إلى إنتاج خرائط أو صور تبدو وكأنها صورًا فوتوغرافية، لا تمثيلات مرئية للبيانات، فإن التحليل الذي يتم عرضه بشكل غير ماهر يمكن أن يؤدي إلى ضرر كبير، وقد يؤدي الحماس المُبالغ فيه إزاء نتائج بحثية مُلتبسة أو مُبهمة إلى ضرر كبير أيضًا.
لهذا السبب، فإن على الحقوقيين الذين يستخدمون التقنيات المكانية/الجغرافية أن يعطوا الأولوية لمصداقية وموضوعية التحليل الذي يصلون إليه فوق أولوية الحماس لتقنيات بعينها. وعلى المدافعين عن حقوق الإنسان الساعين إلى دمج نتائج الرصد عن بُعد أو أيّ من التقنيات الجديدة الأخرى في عملهم، أن يشاوروا مُحللًا خبيرًا مستقلًا يفهم أُطُرَ العمل المتصلة بالتقاضي الحقوقيّ، وعليهم أن يتصوروا أن هذا الشخص قد يصبح شاهدًا خبيرًا أمام المحكمة التي ستبحث بدقة في مدى مصداقيته. يجب أن يكون لهذا الخبير تجربة شخصية في تطبيق مناهج البحث المعتبرة والمعايير الأخلاقية ومدونات السلوك ذات الصلة بعمله. ويجب أن يكون قادرًا على شرح المناهج والمعارف العلمية التي يعتمد عليها بشكل يفهمه ممارسو حقوق الإنسان والمحققون والمتقاضون بسهولة. الأمر نفسه ينطبق بصفة خاصة على الممارسين الراغبين في دمج نتائج البحث العلمي في تقارير حقوق الإنسان التي تضم أيضًا شهادات من مراقبين، وغير ذلك من الأدلة المتصلة بانتهاكات حقوق الإنسان.
ومن الاعتبارات الهامة الأخرى، ضرورة أن يكون الخبير موضوعيًا. وليس هذا مجرد مبعث قلق افتراضي، فالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة شككت في مصداقية شهادة خبير بالإحصاء لأن الشاهد الخبير سبق له أن أدلى بتصريحات داعمة لدعوة المنظمات الغير حكومية بملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب قضائيًا. وكلّما أمكن، يجب إجراء التحليل العلمي بشكل يراعي فصل عملية التحليل عن المعلومات التي قد تؤدي إلى حدوث تحيّز في النتائج البحثية الموضوعية.
وبالمثل، يتعين على المحاكم صاحبة الاختصاص بنظر قضايا حقوق الإنسان إعداد مباديء لتقييم الأدلة العلمية عمومًا بدلاً من التركيز على تقنيات بعينها. فالعديد من المحاكم الوطنية، ومنها محاكم في الولايات المتحدة، أعدت قواعد وإجراءات لتقييم مصداقية التقارير والبيانات العلمية. لقد حان الوقت لأن تفعل المحاكم الدولية لحقوق الإنسان الشيء نفسه. فهذ يجعل عملية تقديم الأدلة العلمية أكثر سلاسة وقابلية للتنبؤ في نظر جميع أطراف القضية، مما يساعد في حماية حقوق إجراءات التقاضي السليمة وحماية العدالة. وبالإضافة إلى اعتماد مباديء موحدة لتقييم مصداقية الأدلة التقنية، فإن بإمكان المحاكم الدولية أيضًا اعتماد عدة نُهُج أخرى، منها:
- تعيين خبراء علميين مستقلين لتقديم المشورة لهيئة المحكمة بشأن الأسئلة والأدلة التقنية المعروضة في قضايا بعينها.
- تعيين "خبراء خاصين" للاستماع إلى الأدلة نيابة عن هيئة المحكمة بحيث يقدمون توصيات للمحكمة في حال كانت الأدلة ذات طبيعة علمية معقدة، كعلوم البيئة مثلًا، مهمة كل الأهمية لنتيجة القضية النهائية.
- أمر أطراف القضية التي تنظرها هيئة المحكمة بتعيين لجنة خبراء مشتركة تقدم المشورة للقضاة، أو
- فتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني المهتمة لتقديم مذكرات فنية ودّية لتعريف هيئة المحكمة بالأمور التقنية التي هي بصدد نظرها في القضية.
إنّ أهمية هذه الاعتبارات المذكورة آخذة في التزايد نظرًا لأن البيانات الرقمية – وسبل ومناهج تحليلها – تتزايد إتاحتها لممارسي حقوق الإنسان، في الوقت الذي تنظر فيه محاكم حقوق الإنسان ومعها المجتمع المدني قضايا تخصّ تدمير البيئة و"جرائم التغير المناخيّ" وانتهاكات الحقوق الاقتصادية والثقافية. سوف تتطلب هذه القضايا أدلّة علمية مستفيضة، ومنها أدلة يتم الوصول إليها عن طريق تقنيات الرصد عن بُعد وغيرها من أدوات الرصد البيئيّ، يتم جمعها عن طريق شبكات معقدة من الأفراد والمجتمعات المتضررة والباحثين العلميين والهيئات الحكومية والمنظمات غير الحكومية. والحقّ أنّ هذا يتيح فرصًا كبيرة لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتعريف بها بشكل جديد وبسبل جاذبة، قد تؤدي إلى نتائج ملموسة. ولتحقيق هذه الفرص، على منظمات المجتمع المدني اعتماد مناهج عمل مناسبة قابلة للاستخدام في التحقق من مصادر البيانات، ومن مسألة تسلسل المسؤولية، ومناهج التحليل. وعليها أيضًا جعل البحث والتحليل العلميّ مستقلًا عن أهداف المناصرة قدر الإمكان عن طريق تشجيع المحاكم الدولية على إعداد معايير وممارسات قابلة للتنبؤ فيما يخص الأدلة العلمية والتكنولوجية.
This article is part of a series on technology and human rights co-sponsored with Business & Human Rights Resource Centre and University of Washington Rule of Law Initiative