عدم التسامح مع الإفلات من العقاب لا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية عدو للسلام

نظام روما الأساسي ينص على أنه يجوز للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الامتناع عن قبول الدعوى ضد المتهم أو وقفها إذا كان ذلك في "مصلحة العدالة". واضعو هذا النظام الأساسي لم يحددوا هذه العبارة، مما جعلها عرضة لتفسيرها بشكل سئ قد يدعو للبس. ومع ذلك، في عام 2007، أقر المدعي العام سياسة تفسر هذه العبارة في أضيق الحدود، وهي أن الحل لتحقيق التوازن بين مطالب "السلام" و"العدالة" لن يتحقق من خلال التوسع في فهم العبارة. لا يوجد أي احتمال أن المدعي العام  سيغير هذه السياسة الآن، ولا ينبغي لها.

بالطبع، دائماً  يوجد شد وجذب بين عملية البحث عن السلام والسعي لتحقيق العدالة. ولكن، لا جدوى من محاولة التمويه بأن تدابير الإفلات من العقاب هي بمثابة بدائل للعدالة. يمكن للعدالة والسلام أن يعملا جنباً إلى جنب: توجد أمثلة إيجابية على ذلك، والمحكمة الجنائية الدولية لديها مرونة كبيرة في تحديد توقيت تدخلها. ومع ذلك، يجب أن يكون مقبولاً أن التزام المحكمة الجنائية الدولية بوضع حد للإفلات من العقاب ليس جديداً؛ لقد نصت الأمم المتحدة على ذلك في القانون والسياسة الدوليين.

في عام 1998، نصح الأمين العام للأمم المتحدة وسطاء الأمم المتحدة بألا يقروا اتفاقيات السلام التي تمنح العفو عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية. وجاءت هذه الخطوة بعد عام من اعتماد لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة مبادئ جوينت. وقد أدى ذلك إلى التأكيد على الالتزامات القانونية  للدول لملاحقة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وتعريف الضحايا بالحقائق، وتقديم التعويضات وإلغاء أو إصلاح المؤسسات الفاسدة.


ICC-CPPI/Flickr (All rights reserved)

ICC Prosecutor Fatou Bensouda.


في يوليو 1999، رفض ممثل الأمين العام في سيراليون إقرار العفو المنصوص عليه في اتفاقية لومي التي أنهت  الحرب الأهلية في ذلك البلد. بعد ذلك، ساعدت الأمم المتحدة على إنشاء المحكمة الخاصة لسيراليون التي حاكمت من تعتبرهم يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن الجرائم الخطيرة، بما فيهم الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور. وقد تحقق السلام.

المغزى هو أن نظام روما الأساسي لا يمثل حالة شاذة: فقد قام بصياغة المعايير التي سبق أن اعتمدها الأمين العام  للأمم المتحدة وهيئات الأمم المتحدة الأخرى، والمحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد خطا هذا النظام خطوة مهمة إلى الأمام في المطالبة بأنه إذا لم تلاحق السلطات الوطنية الجرائم الدولية الخطيرة، وفقاً للقانون، فسوف تتدخل المحكمة الجنائية الدولية للقيام بذلك.

فيما يتعلق بإمكانية المحكمة الجنائية الدولية أن تمارس المرونة في توقيت تدخلاتها، تعتبر كولومبيا مثالاً جيداً على ذلك. منذ عام 2004، اتخذت المحكمة الجنائية الدولية وضعاً في كولومبيا تحت مسمى "دراسة أولية". لمدة عشر سنوات، سعت السلطات الكولومبية وغيرها لإثبات أنه من الأفضل للمحكمة الجنائية الدولية ألا تنتقل إلى المستوى التالي من فتح التحقيق الرسمي. وقد شاهد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بعناية وقام بعدة زيارات وعمليات مراقبة قانونية للانتخابات العامة وتسريح جماعات شبه العسكرية ومفاوضات السلام مع الجماعة الكولومبية المسلحة (FARC). خلال هذه الفترة، قام نظام العدالة الكولومبي بمحاكمة بعض قادة الجماعات شبه العسكرية، ومئات من السياسيين وما يقرب من ألف من العسكريين ذوي الرتب المنخفضة والمتوسطة الذين شاركوا في قتل المدنيين.

هناك أمر مؤكد وهو أن كولومبيا تختلف عن سيراليون من حيث أنها لم يحاكم بها أشخاص عسكريون يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن الجرائم الخطيرة. وعلى الرغم من محاكمة قادة الجماعة الكولومبية المسلحة، فلم يواجهوا أي عقوبة (كانت محاكمتهم أساساً غيابية). وقد بذلت الحكومة الكولومبية جهداً كبيراً لتثبت أنها تتعامل مع هذه المسألة بجدية. وفي المقابل، أظهر المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية صبراً واحتراماً تجاه الواقع المحلي. وقد حدثت بضع عثرات، وربما وجود حساسية أكبر لهذا الواقع ضروري أحياناً، ولكن على العموم فقد كانت عملية مميزة.

المرونة ممكنة أيضاً فيما يتعلق بطبيعة العقوبة بعد المحاكمة. في أيرلندا الشمالية، كان يعتبر الحكم بالسجن لمدة عامين، حتى للقتل، عقوبة مقبولة في سياق اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1996، والتي تم إقرارها من خلال استفتاء وطني. وقد قبل المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بالفعل حكماً بالسجن لفترات تتراوح بين خمس وثماني سنوات لقادة الجماعات شبه العسكرية بتهمة القتل في كولومبيا. الردع ليس هو الهدف الوحيد للعقوبة. يستغرق الصراع وقتاً طويلاً ويتطلب إجراءات متناسقة لتأكيد القيم حيث انتهاكها لا يمكن التغاضي عنه أو مكافأته.

وعلى الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية قد تكون مرنة، في توقيت وشكل تحقيقاتها وطبيعة عقوباتها، فإنه يجب علينا أن نقاوم إغراء خلط المرونة مع قبول الإفلات من العقاب.

 وعلى الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية قد تكون مرنة، في توقيت وشكل تحقيقاتها وطبيعة عقوباتها، فإنه يجب علينا أن نقاوم إغراء خلط المرونة مع قبول الإفلات من العقاب. أي بديل للملاحقة الجنائية يعني عدم وجود ملاحقة قضائية؛ ومهما يكن شكل هذا البديل، هو في الواقع عفو مشروط. لقد كان المجتمع الدولي واضحاً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية، بأن العفو هو ببساطة مفهوم خاطئ من البداية. وهكذا، فقد أوضح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأن مفهوم "مصلحة العدالة" لن يتم التذرع به لإيجاد طرق للتحايل على مقاضاة الأشخاص الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

السياسة التي اعتمدها المدعي العام في عام 2007 توضح بأنه بمجرد أن يبدأ تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، لا يمكن لأولئك الذين يواجهون العدالة أن يتوقعوا المساومة من أجل توقفها، مطالبين الإفلات من العقاب في مقابل وضع أسلحتهم أو التخلي عن سلطتهم. وكما لوحظ، فإن الرسالة من وراء هذه السياسة تتفق مع سياسة الأمم المتحدة والقانون الدولي. وعلاوة على ذلك، فهي تزيل المخاطر المترتبة على الغموض في المناقشة الدائرة حول "مصلحة العدالة"، ولكنها لا تزال تسمح للمحكمة ببعض المرونة في توقيت ردها على السياقات المختلفة، كما يبين المثال الكولومبي ذلك بوضوح.

وقد أصبح عمل وسطاء السلام أكثر صعوبة بسبب الاتجاه للمطالبة بالمساءلة عن أسوأ الجرائم التي تشكلت في تسعينيات القرن العشرين. إنه من غير المجدي إلقاء اللوم على المحكمة الجنائية الدولية عن هذا الاتجاه، كما أنه من غير المجدي محاولة تجنب ذلك.

في مقابلة أجريت مع ألفارو دي سوتو عام 2002، وهو دبلوماسي كبير سابق في الأمم المتحدة، اقترح قاعدتين ذهبيتين لوسطاء السلام: لا تحاول خداع الناس ولا تخبرهم فقط بما يريدون سماعه. فمن الأفضل أن تكون قادراً على إخبار الجناة المزعومين الحقيقة، حتى لو كانوا لا يريدون سماعها. الأفضل أن تجعل العدالة والسلام يعملان جنباً إلى جنب، كما حدث في كولومبيا وسيراليون. الأفضل أن تجعل الاغتصاب الجماعي والاختفاء القسري والتعذيب والقتل أموراً غير مقبولة، حتى لو استغرق ذلك وقتاً طويلاً، عملية سلام واحدة تلو الأخرى وبالتدريج.