السخرية سلاح المقاومة في مصر

ذات مساء في شهر مايو، أثناء تصفحي لتحديثات صفحتي على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي، قفز أمامي منشور أصابني بالذعر لأحد أصدقائي يدعى عادل - وهو أحد طلاب المسرح في مركز الجوزيت للفنون- : "تم إلقاء القبض على عز. وهو الآن محتجز في قسم شرطة هليوبوليس، وقريباً سيلقون القبض على المتبقين منا".

عز المذكور هنا، صديق لي كنا نرتاد نفس صفوف المسرح معاً، وعرفت مؤخراً من خلال صفحته على موقع فيسبوك أن اعتقاله كان بتهمة نشر فيديوهات مسيئة ومحاولة قلب نظام الحكم. وقد كنت شاهدت من قبل بعض مقاطع الفيديو الخاصة بهذه المجموعة والتي قاموا بتصويرها على طريقة السيلفي - باستخدام كاميرا الهاتف المحمول - ونشروها على موقع يوتيوب، قاموا في هذه الفيديوهات بأداء مسرحي هزلي يسخرون فيه من مواضيع شتى تخص المجتمع المصري مثل برامج الراديو الدينية أو أغاني الأطفال أو النظام العسكري. هذه المجموعة والمكونة من 6 فنانين صغار السن (تتراوح أعمارهم من 19-25 سنة)، قابلت معظمهم من خلال صفوف المسرح ويملئهم شغف بالمسرح والفنون. ظنت هذه المجموعة أن بإمكانهم مناقشة أي شيء والتعرض لأي موضوع – وربما حتى المواضيع التي يصعب عليهم مناقشتها بشكل مفتوح في حياتهم اليومية – من خلال المسرح أو الأداء المسرحي. فكونوا فرقة مسرحية وأطلقوا عليها اسم "أطفال شوارع"، وأنشئوا صفحة لهم على موقع فيسبوك ولهم أكثر من 300،000 معجب يتابعون فيديوهاتهم المنشورة على الصفحة.   

عقب نشر عادل لهذا المنشور بيوم أو يومين، تم القبض عليه  بالفعل كما تنبأ وتوقع بنفسه – بالإضافة إلى أعضاء الفريق الأربعة الآخرين – وحُبسوا 15 يوماً على ذمة التحقيق بتهمة استخدام فيديوهات يوتيوب للتحريض على العنف وأعمال الإرهاب. وعلى مدار الخمسة أشهر الماضية تم تجديد الحبس على ذمة التحقيق بشكل متواصل، ليصل مجموع الأيام التي قضوها في الحبس الاحتياطي 105 يوماً. وحيث أن قانون التظاهر قد منع نزول المظاهرات إلى الشوارع لجأ النشطاء إلى مواقع التواصل الاجتماعي لدعم الفرقة. فأطلقوا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "كاميرا التليفون بتهزّك؟" قام فيها الداعمون بنشر صورهم على طريقة السيلفي باستخدام هواتفهم المحمولة للاستهزاء بخوف النظام من الفن الساخر. وشارك في هذه الحملة العديد من فناني مصر المعروفين والصحفيين والسياسيين.

حقيقة الأمر أن الفن الساخر في مصر له دور هائل وجوهري في الحركات الاجتماعية الحالية والنشاط السياسي في مصر.

حقيقة الأمر أن الفن الساخر في مصر له دور هائل وجوهري في الحركات الاجتماعية الحالية والنشاط السياسي في مصر، وبشكل خاص أثناء تصعيدات 2011 وما تلاها من أحداث. وكان الساخر الأكثر شهرة وبروزاً على الساحة في حينها باسم يوسف، والذي يُعرف بلقب "جون ستيورات مصر". بدأت شهرة باسم يوسف في عام 2011 بعد نشره لفيديوهات سياسية ساخرة على موقع يوتيوب كرد فعل ونتيجة للغياب التام لحرية التعبير في وسائل الإعلام الرئيسية. واستخدم باسم يوسف في فيديوهاته التي حققت ملايين المشاهدات الكوميديا لانتقاد المشهد السياسي في مصر والشرق الأوسط. وقد امتدت واتسعت شهرته حتى حصل على برنامج خاص له على قناة ONTV (أون تي في) وأطلق عليه اسم "البرنامج"، ليكون بذلك باسم يوسف أول من نجح في الانتقال ببرنامجه من شبكة الانترنت إلى شاشة التليفزيون في العالم العربي. حقق برنامجه نجاحاً ساحقاً واستمر عرضه لثلاثة مواسم متتالية، موسمين منهما تمت إذاعتهما مباشرة على الهواء بحضور الجمهور. وشهد البرنامج تغير الوضع السياسي في مصر ومروره بتحولات مختلفة، بالإضافة لصعود وسقوط الأنظمة السياسية في مصر، ومن ضمنها الإخوان المسلمين ولاحقاً عودة الحكم العسكري لمصر. ولكن في أبريل 2014، قامت قناة MBC (إم. بي. سي مصر) بوقف عرض البرنامج بحجة أن البرنامج قد يؤثر على تصويت المصريين في الفترة السابقة للانتخابات الرئيسية لعام 2014. في يونيو 20144، أعلن باسم يوسف وقف البرنامج نهائياً نتيجة للضغوط التى تمت ممارستها عليه شخصياً وعلى أسرته والقناة المذيعة للبرنامج. وأعلن في مؤتمر صحفي أقامه في الاستديو الخاص به أنه استمراره في البرنامج أصبح يمثل خطراً عليه وعلى سلامة أسرته. وفي نهاية المطاف، اضُطر  باسم يوسف لمغادرة مصر. وعلى الرغم من اضطرار باسم يوسف لمغادرة مصر إلا انه ألهم جيلاً بأكمله ليطالبوا بالعدالة. فبرنامجه دفع الناس للتفكير النقدي واتخاذ خطوات بناءة نحو التغيير. كما ألهم نجاح باسم يوسف الكثير من الفنانيين الصاعدين في أن يحذوا حذوه. ولكن للأسف، هذه البرامج الساخرة في مصر والعالم العربي تمثل أرض بكر للبحث لم يسبق دراستها لنصل لدليل بيّن على حجم تأثيرها في الانخراط السياسي والوعي العام  للمواطنين.


Flickr/Al Ibrahim (Some rights reserved)

In societies where dissent is repressed, the consumption of satire can be one of the strongest tools of resistance.


اعتدت أنا وأصدقائي مشاهدة برنامج باسم يوسف بانتظام لنتعرف على الآراء والتعليقات السياسية بدلاً من مشاهدة البرامج السياسية المتخصصة – فمشاهدة برنامج ساخر قدم لنا منفس من المشهد السياسي وثقل وطأته، ولكن في نفس الوقت أبقانا على وعي بمختلف وجهات النظر السياسية والأحداث الهامة. ولكن هذا ليس دوره الوحيد فقط، فمثل هذه البرامج الساخرة ترسل رسالة غير مباشرة مفاداها أن لا أحد يعلو فوق الفن الساخر وصوته العادل غير التمييزي، ولا حتى الرئيس نفسه. مشاهدة برنامج باسم يوسف جعلني أشعر بالشجاعة والقوة وعلى أقل تقدير سمح لي باقتناص بعض الضحكات.   

فلطالما كان الفن الساخر وسيلة مقاومة ليس في مصر وحدها ولكن في العديد من الدول حول العالم. فأول ما علمت من بشاعة وضراوة حكم هتلر والنظام النازي كان من خلال الأفلام الصامتة والتي قدمها الأسطورة "تشارلي شابلن" فصمدت وخُلدت في أذهان الناس متفوقة على أي أخبار وتعليقات سياسية من زمنها. جون ستيورات في الولايات المتحدة وعلي فرزات في سوريا وإبراهيم نبافي في إيران هم أمثلة قليلة من الساخرين المتحدين للسلطة بسلاح الكوميديا، وربما يصل الأمر بهم إلى حد إلقاء القبض عليهم وحبسهم.  فالفن الساخر لم يسلم من المنتقدين المتزمتين. فقد رُفعت العديد من القضايا ضد باسم يوسف من قٍبل الإسلاميين يتهمونه فيها "بإفساد الذوق العام وانتهاك المبادئ الدينية والأخلاقية"، ولاحقاً خلال الحكم العسكري قام كبار ممثلي المدعي العام بإتهام باسم يوسف بالتشويه والتشهير في حق المؤسسة العسكرية. في بحث قامت به دينا يوسف في كلية الإعلام بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وجدت تغيراً ملحوظاً في رد فعل الجمهور واستجابتهم نحو برنامج باسم يوسف منذ انتخاب عبد الفتاح السيسي وخاصة في الشريحة العمرية للجيل الأكبر عمراً ممن يزعموا أن باسم يوسف يريد غزو المجتمع المصري بالأفكار الغربية.    

في البلدان التي يكون فيها الخوف سلاح لمحاربة حرية التعبير، تصبح السخرية أقوى وسائل المقاومة.  فالسخرية أو الفن الساخر صناعة تستحق الانتباه والدراسة والاستثمار لكي تزدهر وتصبح قوة يافعة تكفي لتحرير الناس. وأقتبس هنا ما قاله باسم يوسف في منتدى الإعلام العالمي الذي تنظمه إذاعة دويتشة فيلة (Deutsche Wellee)  "الفن الساخر والكوميديا ربما يكونان آفضل وسيلة لمجابهة الخوف. فالضحك يحرر العقول ويخلصها من الأحكام المسبقة. ولهذا فهو يمثل خطراً... فالعالم الآن يحتفي بالفاشية ويحكم بالخوف. ولكن الفن الساخر جاء ليحطم هذه المعادلة، فبالضحك تمحي خوفك، ولذا يعمل النظام السياسي للقضاء على سلاح الضحك، حتى يتثنى له بث الخوف وغرسه في النفوس".