عدم تعارض

في 31 مارس 2005، أحال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ملف جرائم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن الحكومة السودانية ما لبثت أن فجرت أزمة مع المحكمة الجنائية الدولية وانتقدتها علناً، خصوصاً بعد صدور مذكرة اعتقال بحق رئيس الحكومة واثنين من أعضائها بسبب اتهامهم  بارتكاب جرائم حرب في دارفور.

ومن أجل الطعن على دور المحكمة الجنائية الدولية في السودان، أثارت الحكومة السودانية عدة حجج، أهمها تصوير المحكمة الجنائية الدولية كأداة في يد "الاستكبار الدولي" لهدم "السيادة الوطنية" السودانية. وبطبيعة الحال، هذه الحجج وضعت الحكومة بشكل مباشر في بؤرة مفارقة مريعة فإما أنها كانت غافلة عن الطبيعة "الاستكبارية" لنظام روما الأساسي عندما وقعت عليه في سبتمبر 2000، أو أنها كانت على علم بتلك الطبيعة "الاستكبارية"، ومع ذلك وقعت على النظام الأساسي عن ضعف. بالإضافة إلى ذلك، فقد وضعت هذه الأزمة الحكومة في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي بأسره، على المستويين الرسمي والشعبي على حد سواء.

لا يحق للحكومة السودانية القول بأن المحكمة الجنائية الدولية هي أداة للقوى العظمى، لأن المحكمة الجنائية الدولية لم تتأسس باعتبارها مجرد معاهدة بين الدول. وعلى الرغم من أن الأمر هو كذلك على نحو ما، إلا أن هذه المحكمة نشأت أساساً كتتويج لحملة شعبية ضارية.شارك فيها  الملايين من البشر والآلاف من المنظمات  الديمقراطية في جميع أنحاء العالم احتشدوا جميعاً لإنشاء هذه الهيئة العدلية الدائمة. إنشاء هذه المحكمة هو انعكاس للنظام القانوني الدولي الناشئ عن المسؤولية عن حماية حقوق الأفراد، حتى من حكوماتهم.


United Nations Photo/Flickr (Some rights reserved)

A father and son in North Darfur IDP camp. Sudanese government claims of ‘sovereignty’ against ICC action ring hollow.


ومع ذلك، فإن القول بأن المحكمة الجنائية الدولية تتعارض مع السيادة الوطنية لا يزال يستحق التأمل. فقد نشأ المفهوم التقليدي "للسيادة الوطنية" من حيث كانت كل دولة تطالب الدول الأخرى بالاعتراف بحقها المطلق في التصرف على أراضيها وفيما يخص شعبها بحصانة وبدون أي تدخل دولي. ومع ذلك، ووفقاً للقانون الدولي الحديث، لا يمكن اتهام الإجراءات الدولية بأنها غير شرعية إذا كانت مستندة إلى نصوص إحدى الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الدولة نفسها. عضوية السودان في الأمم المتحدة تتطلب منها أن تخضع لميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي، لا يمكنها الاعتراض على سلطة مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق (السلطة التي تخوله إحالة السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية).

وهنا تكمن المشكلة بالنسبة للحكومة السودانية: إذ لا يمكن لأي دولة التوقيع على نظام روما الأساسي مع وضع شرط بأن التدخل وتوجيه الاتهام ينطبقان فقط على الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن السودان قد وقعت بالمعنى الدقيق للكلمة فقط، ولم تصدق على نظام روما الأساسي بالكامل، فإن هذا التوقيع لا يزال يشير في النهاية إلى وجود نية للالتزام بقواعده.

مهما يكن من أمر فإن السيادة الوطنية لم تعد تعني الحق المطلق للدولة في أن تقرر شؤون شعبها كما كان يحلو لها في الماضي. وعلى وجه الدقة، عندما تصبح حقوق الأفراد والمواطنين في خطر، لا تصبح العلاقة بين الدولة وشعبها شأناً داخلياً، وخاصة إذا كانت هذه الانتهاكات تؤثر على دول أخرى. الحكومة السودانية تعرف ذلك، وقد وقعت على نظام روما الأساسي مما يجعلها موافقة عليه. ولكن بمجرد أن أرادت المحكمة الجنائية الدولية التحقيق مع شخصيات حكومية رئيسية، بدأت الحكومة في الصياح بأن هذه "إمبريالية"!

الدولة ملزمة بحماية حقوق مواطنيها، وإذا ما فشلت في القيام بذلك، يحق للمجتمع الدولي اتخاذ إجراءات تتضمن التدخل في الظروف القصوى.

 يمكن القول بأن المفهوم التقليدي المقدس والمطلق للسيادة الوطنية قد تراجع، وهذا يمنح مساحة أكبر للتدقيق والإجراءات الدوليين لحماية حقوق الأفراد. الدولة ملزمة بحماية حقوق مواطنيها، وإذا ما فشلت في القيام بذلك، يحق للمجتمع الدولي اتخاذ إجراءات تتضمن التدخل في الظروف القصوى. وكما قال الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة: "لقد انتهى زمن السيادة المطلقة". يتطلب هذا المفهوم الحديث للنظام الدولي تحقيق التوازن بين ضرورات الحكم الرشيد ومتطلبات العالم المترابط، و كذلك تحقيق التوازن بين حقوق الدولة وحقوق شعبها.

ومع ذلك، لا تزال حكومات الدول الأقل قوة مثل السودان ترى أن الدول الأكثر قوة يمكن أن تسئ استخدام هذا المفهوم الحديث للسيادة الوطنية عند سعيها لتنفيذ أجنداتها لفرض الهيمنة. ومع ذلك، إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فلماذا شاركت هذه الدول في المؤتمر الدبلوماسي الدولي الذي عقد في روما الذي تفاوض بشأن نظام روما الأساسي في عام 1998؟ وعلاوة على ذلك، لماذا وقعت هذه الدول على جميع نصوص نظام روما الأساسي، أو لماذا وقعت وصدقت على معاهدات حقوق الإنسان والقانون الإنساني، كما فعلت السودان؟

دائماً ما تقوم الأنظمة الشمولية بسهولة جداً بإساءة استخدام مفهوم الوطنية ومشاعر شعوبها لتدفعها للتظاهر ضد هذا الفهم الحديث للسيادة الوطنية والإشارة إلى الدول الكبرى واتهامها بوجود دوافع خفية لديها. ومع ذلك، فشلت هذه الأنظمة نفسها في حماية أراضيها، وفشلت في حماية شعوبها وفشلت في حل أبسط المشاكل، وفي النهاية خضعت لمختلف أشكال التدخل على أي حال، بما في ذلك التدخل العسكري. وعلى نحو مماثل، فشلت حكومة السودان باستمرار في أن تتذكر "السيادة الوطنية" والواجبات المترتبة عليها، إلا عندما تحول اهتمام المجتمع الدولي في اتجاه انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان.

لا يمكن أن يؤدي استغفال الشعب وخداعه من خلال الخطب الحماسية والشعارات الجوفاء إلى تحقيق السيادة الوطنية، بل يتطلب ذلك الأمر أن تحارب الحكومة التهميش، وتقضي على الظلم وترسي الدعائم الأساسية للسلام والوحدة والديمقراطية. وعلاوة على ذلك، تتطلب السيادة الوطنية المسؤولة تعزيز العدالة في الداخل، وتطبيق مبادئ المساواة أمام القانون والحد من فرص الإفلات من العقاب. يجب على الحكومات التي تريد السيادة أن تحل أولاً المشاكل الداخلية التي قد تؤدى إلى التدخلات أو الإجراءات الدولية.

فقط عندما يتم تطبيق هذه المبادئ، حينئذ لن تضطر المحكمة الجنائية الدولية إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وبعبارة أخرى، إذا كانت الحكومة السودانية تريد السيادة الحقيقية، ينبغي أن تثبت أنها تستحقها.