الخلافات بشأن التمويل الأجنبي في إسرائيل تخفي في طياتها قضايا أعمق من ذلك بكثير

قبل بضعة أسابيع، توحد الإسرائيليون على مختلف أطيافهم السياسية في وحدة نادرة بسبب غضبهم تجاه فيلم رسوم متحركة مروع تم نشره على موقع يوتيوب. تضمن الفيلم كافة عناصر البروباغندا  المعادية للسامية بشكل  عنيف، حيث صور يهودي جشع يحصل بشراهة على عملات ذهبية من مُموّل أجنبي ويؤثر على وسائل الإعلام للإساءة إلى الوطنيين المخلصين في بلده. وقد اهتم الفيلم بتسليط الضوء مرة أخرى على الشخصية التقليدية التي تمثل المعادية للسامية التي تعود لألف سنة مضت، وهي شخصية يهوذا الأسخريوطي. بمجرد أن حقق اليهودي في الفيلم مصلحته، نصحه المُموّل بأن "يعتني بنفسه" أي أن عمله قد انتهى هنا، وبذلك انتهى الفيلم بأن شنق اليهودي نفسه عن طيب خاطر في محاكاة صريحة ولكن مطابقة للمصير الذي واجهه يهوذا في متّى 27: 3-100.

ومع ذلك، مما ضاعف الغضب هو أن يهوداً إسرائيليين صنعوا هذا الفيلم من أجل يهود إسرائيليين آخرين. وعلاوة على ذلك، كان القصد من اليهودي الذي يصوره الفيلم أن يمثل يهوداً إسرائيليين آخرين.

تم صنع هذا الفيلم بتكليف من مجلس مستوطني السامرة، وهو غير هادف للربح ويتمتع بتمويل شعبي كبير؛ وكان رئيس المجلس جدعون ميزيكا فعلياً هو الشخصية العامة الوحيدة المدافعة عن الفيلم في مواجهة رد فعل عنيف، بما في ذلك من بعض زعماء المستوطنين البارزين. وكان المستهدفون من الفيلم هم النشطاء المناهضين للاحتلال والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين يتلقون التمويل من الجهات الراعية الأجنبية. وبينما يتأرجح اليهودي في الفيلم مع الريح، تعرض الصورة الختامية شعارات عبارة عن خليط من الأموال والحركات السياسية ومنظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك حركة السلام الآن، بتسيلم، يش دين، يش غفول، حاخامات من أجل حقوق الإنسان، كسر الصمت ومنظمة صندوق إسرائيل الجديد.

يوجد الكثير للكشف  هنا، بدءاً من التشبيهات المجازية المشوهة (إذا كان النشطاء هم يهوذا، هل يجعل ذلك من المستوطنين يسوع المسيح؟) إلى مفارقة الصهاينة المحافظين الذين يعتمدون على التشبيهات المجازية المعادية للسامية لانتقاد اليهود الذين يختلفون معهم، تناقضات يرجع تاريخها المؤسف إلى السنوات الأولى من الصهيونية  الحديثة. ولكنه أيضا يسلط الضوء، مرة أخرى، على مدى كون  السياسة الإسرائيلية  نقطة انطلاق لمصالح أجنبية متعددة، تمويل حقوق الإنسان هو جزء نسبيا بسيط منها

في البداية، اعتمدت المنظمات التي  تُشكلالحركة الصهيونية دائماً بشكل كبير على التبرعات الخاصة من الخارج لدعم أنشطتها لبناء الدولة، بما في ذلك الاستيلاء على الأراضي المملوكة للعرب. تبرز صناديق التجميع الزرقاء–المزينة بشعار الصندوق القومي اليهودي (JNFF)– ذكريات الطفولة لأجيال من اليهود في الشتات (والمثير للاهتمام، أنها تشمل عدة أجيال نشأت عندما قام الصندوق القومي اليهودي بإعادة التركيز من الحصول على  الأراضي للإستيطان اليهودي، إلى تطوير أراضي صودرت من القرويين الفلسطينيين الذين تم طردهم خلال حرب عام 1948). تعتمد تقريباً جميع المؤسسات العامة في إسرائيل، من المدارس إلى الجامعات إلى المستشفيات، بشكل كبير على التمويل الأجنبي، عادة من أهل الخير من الشتات اليهودي.

وينطبق نفس الشيء فيما يتعلق بالسياسة والقطاع الثالث. وعلى الرغم من التحكم في جمع التبرعات الانتخابية في إسرائيل بإحكام –المنع بشكل فعال للتمويل المباشر للحملات من الخارج من خلال فرض شروط مشددة على مقدار المال الذي يمكن جمعه والغرض منه– فإن التمويل الأجنبي يساعد على تحديد المشهد ورسم حدود الخطاب المقبول الذي يتناول الحملة الانتخابية الفعلية.


Demotix/Oren Rosenfeld (All rights reserved)

A billboard advertising for Benjamin Netanyahu's recent election campaign. In Israel, foreign funding helps set the scene and delineate the limits of acceptable discourse during campaigns and elections.


بالنسبة لليمين الإسرائيلي اليهودي، الوسيلة الأبرز لكل ذلك هي صحيفة يسرائيل هايوم، وهي صحيفة يومية مجانية يديرها مؤيد الأمريكي الرئيسي لنتنياهو، عملاق الكازينوهات شيلدون أديلسون، وكذلك جماعات التأييد والحملات مثل مجلس مستوطني السامرة والمنظمات التي تحاول على وجه التحديد ضبط الخطاب في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، مثل مرصد المنظمات غير الحكومية وحركة إن أردتم. بالنسبة لليسار، الوسيلة الأبرز هي مجموعة منظمات التأييد والتقاضي؛ بعضها سياسية بشكل صريح، مثل حركة السلام الآن، ولكن معظمها يهتم بمعارضة انتهاكات حقوق الإنسان ورفع مستوى التوعية بها بين الإسرائيليين. وعلى الرغم من أن سجل أدائها الحافل مثير للإعجاب، فإن تأثيرها على السياسات الإسرائيلية صغير جداً.

في الواقع، معظم الإسرائيليين اليهود غير منزعجين من مزاعم التمويل الأجنبي، مهما كانت الجهة السياسية التي يأتي منها هذا التمويل. وبالنظر إلى أنهم تحاصرهم الجامعات والملاعب والمستشفيات والمدارس والجسور المسماة بأسماء فاعلي الخير الأجانب، هذا بالكاد أمر مستغرب.

 الأمر المثير للاهتمام بشكل خاص هو معرفة الحجج التي يستخدمها كلا من اليمين واليسار عندما يتهم بعضهما البعض بإرضاء الجهات الراعية الأجنبية غير الخاضعة للمساءلة. ويؤكد اليسار على أن ذلك يضر بالديمقراطية  الإسرائيلية –في قضية إسرائيل هايوم– وبحرية الصحافة. ووصل اليمين إلى الذاكرة التاريخية اليهودية، محاولاً بطريقة خرقاء رسم العلاقة بين الأوروبيين غير اليهود الذين اضطهدوا اليهود والأوروبيين غير اليهود الذين هم اليوم يحاولون التدخل في شؤون الدولة اليهودية ذات السيادة. وقد حقق اليسار نجاحاً محدوداً، محرزاً بعض التقدم نحو إصدار قانون من شأنه أن يغلق تماماً صحيفة  يسرائيل هايوم. وكان النجاح التشريعي لليمين محدوداً أيضاً إلى حد ما: قد أدت مشاريع القوانين، المصممة لعرقلة تدفق التبرعات الأجنبية إلى الجماعات اليسارية، إلى نقاش عام وساعدت على المزيد من تشويه صورة المنظمات اليسارية. ولكن لم يتحول أحد مشاريع القوانين هذه إلى قانون.

في النهاية، عندما تستقبل تقريباً كل منظمة بارزة بعضاً من الأموال الأجنبية، يصبح استخدام هذا الاتهام بالذات مثيراً للسخرية. في الواقع، معظم الإسرائيليين اليهود غير منزعجين من مزاعم التمويل الأجنبي، مهما كانت الجهة السياسية التي يأتي منها هذا التمويل. وبالنظر إلى أنهم تحاصرهم الجامعات والملاعب والمستشفيات والمدارس والجسور المسماة بأسماء فاعلي الخير الأجانب، هذا بالكاد أمر مستغرب. بل لعله أقل من أمر مستغرب بالنظر إلى أنهم يتم تذكيرهم باستمرار أن وجودهم نفسه يدعمه على وجه الخصوص راعي أجنبي سخي هو الولايات المتحدة.

إذا كان معظم الإسرائيليين لا يهتمون بالتمويل الأجنبي، فلماذا محاولة تشويه سمعته؟ يمكن القول بأن الخلاف الحقيقي هنا، ومصدر إلهام الفيلم، لا يتعلق بالتمويل. في الواقع، قيمة التمويل الأجنبي هو أمر مشترك يمكن لجميع الاطراف الاتفاق عليه، على الرغم من أنها لا تتفق علناً. يبدأ الخلاف الحقيقي وينتهي في أشياء ملموسة بدرجة أقل بكثير من النفوذ الأجنبي. الصدمات في الماضي والحاضر، الضغائن الواضحة وغير الواضحة، الخوف من الآخر، الرعب من مستقبل مجهول، وقبل كل شيء، الخلط المستمر بين الهيمنة والبقاء على قيد الحياة، كل ذلك يوجه السياسة الإسرائيلية. التمويل الأجنبي هو عامل تحفيز مهم، ولكن بالكاد عامل تحديد. في هذه اللحظة، يحتاج اليسار إلى التمويل الأجنبي أكثر من اليمين، لأن اليمين مرتبط بالمخاوف والضغائن والصدمات الإسرائيلية أفضل من اليسار بكثير.

بما يتضح من الغضب الشعبي بسبب تصريحات مهينة أُدليَ بها عن يميني مزراحي اليهود في تجمع بأغلبية ساحقة من اشكنازي يسار الوسط، فلا بد لليسار  السياسي الإسرائيلي أن يعترف بأن بعض هذه الضغائن موجودة. هذا هو الانقسام الحقيقي، وعلى الرغم من محاولات استخدام الأموال الأجنبية كنوع من التشهير، فلن تكون المشاحنات المتعلقة بمصادر التمويل أبداً قضية رئيسية.