الحقوق بصفتها الردّ المطلوب للتعامل مع الانهيار البيئي الوشيك

ها هي البشرية تمضي كالسائرين نيامًا نحو كارثة إيكولوجية كبرى. تراجعت أعداد مختلف الكائنات في البرّية بنسبة مذهلة، بلغت ستين بالمئة على مدار السنوات الخمسين، ما يؤدي إلى تسارع الانحسار المتسارع في درجة تنوع ووفرة أشكال الحياة التي نشاركها هذا الكوكب البهي الذي طالت معاناته معنا. وها هو التغير المناخي يُطلق أضراره على البشر والكائنات الأخرى، من موجات الحرّ والجفاف إلى العواصف والفيضانات الشديدة والمتكررة. إننا نقترب بسرعة كبيرة من نقاط التحول التي لا رجعة عنها، الكفيلة بجعل كوكب الأرض غير قابل للحياة بالنسبة إلى البشر ولكائنات أخرى كثيرة. وفي الوقت نفسه، يقتل التلوث بوتيرة متسارعة أفراد أكثر كل عام، بأعداد تفوق قتلى الحروب وحوادث القتل وحوادث الطرق ومرض السل والإيدز والملاريا مجتمعين.

كما قالت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في تقريرها الخاص الخريف الماضي، فإن العالم بحاجة إلى "تغيرات سريعة بعيدة المدى وغير مسبوقة من كافة أوجه المجتمع" لدرء الكوارث الإيكولوجية الكفيلة بإنزال قدر هائل من المعاناة والانتهاكات الحقوقية، لا سيما على الأشخاص الأفقر والأكثر هشاشة بيننا.

ونظرًا لخطورة وإلحاح التحديات البيئية التي تواجه البشرية، فإن علينا الاستفادة من أقوى الأدوات والنُهُج المتوفرة لنا للحفاظ على ما تبقى من التنوع الحيوي للكوكب، ومن ثم إعادته إلى مجده القديم. ومن السبل الواعدة – بناء على سلسلة من السوابق التاريخية الهامة – الاستفادة من النُهُج المستندة إلى حقوق الإنسان.

يزخر التاريخ بأمثلة ملهمة على قدرة الحقوق على إحداث تحولات كبرى، من تمكين الحركات الشعبية من التغلب على مقاومة الأطراف النافذة لمطالبها وتغيير الوضع القائم. استطاع المطالبون بإنهاء العبودية تحقيق مطالبهم في معركة غير متكافئة ولا تصب في صالحهم، ضد ملاك الأراضي الأثرياء والشركات التي استفادت من استغلال الأشخاص معدومي الحقوق. واستفاد المطالبون بتمكين المرأة من الحق في التصويت من الإطار الحقوقي. وخاضت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة معركة حثيثة لكفالة الحقوق الدستورية للأمريكيين من أصول أفريقية في صورة تشريعات وأحكام محاكم، وعبر احتجاجات الشوارع، فثوّرت المجتمع الأمريكي. ثم إن هناك النشطاء ضد الأبارتيد، والمطالبين بحقوق الشعوب الأصلية والمطالبين بحقوق مجتمع الميم.. فقائمة الحركات الحقوقية التي أنجزت مكتسبات استثنائية طويلة ومبهرة.

هناك مقاربتان واعدتان تستندان إلى حقوق الإنسان، يمكنهما أن تغيرا كثيرًا من حالة صحة وسلامة البشر والنظم البيئية. المقاربة الأولى هي الاعتراف العالمي بالحق الإنساني في بيئة صحية ومستدامة. والثانية تخص مد مظلة الحقوق بما يتجاوز البشر إلى الكائنات الأخرى، والنظم البيئية، والطبيعة في حد ذاتها.

إن الحق في بيئة صحية ومستدامة يتمتع بالفعل بعمق وقبول كبيرين في شتى أنحاء العالم، لكن يجب بذل مزيد من الجهود لجعل هذا الحق معترف به من الكافة وقابل للإنفاذ. هناك أكثر من 120 دولة، من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وبعض مناطق آسيا، والشرق الأوسط، والكاريبي، صدقت على معاهدات إقليمية لكفالة الحق في البيئة الصحية. يتمتع هذا الحق بضمانات دستورية في أكثر من 100 دولة، من الأرجنتين إلى زامبيا، وهناك أيضًا قوانين لحماية البيئة في أكثر من 100 دولة. إجمالًا، تعترف 155 دولة باحترام وحماية وإعمال الحق في بيئة صحية ومستدامة، وهي ملتزمة قانونًا بهذا. لقد حان الوقت لأن تعترف الأمم المتحدة بهذا الحق بصفته حقًا إنسانيًا أصيلًا مُستحق للجميع في الأماكن كافة.

تُظهر الأدلة الإمبريقية التي خرج بها عدد بلا حصر من الباحثين أن الحماية الدستورية للحق في البيئة الصحية يؤدي إلى أداء بيئي أفضل، من زيادة إتاحة مياه الشرب الآمنة إلى تسريع عجلة تقليل معدلات تلوث الهواء. وفي عشرات الدول، استخدم المواطنون والنشطاء الحقوق البيئية في قضايا انتهت بأحكام محاكم هامة، وفي بعض الحالات أدت إلى امتيازات غير مسبوقة للناس والنظم البيئية. على سبيل المثال، فإن حكم قضية ميندوزا الصادر عن المحكمة الأرجنتينية العليا في عام 2008 أطلق شرارة عملية تنظيف هائلة لحوض نهر رياتشويلو، فضلًا عن إنفاق مليارات الدولارات على بنية تحتية جديدة لمعاجلة مياه الشرب والصرف التي تخدم مجتمعات يسود فيها الفقر.

يمكن للاعتراف بحقوق الطبيعة أن يحوّل من القوانين والثقافات السائدة على السواء. يعترف دستور الإكوادور بحقوق "الباتشا-ماما" ("الأرض الأم") منذ عام 2009، ما أدى إلى إطلاق تغييرات في أكثر من 75 قانونًا وسياسة عامة، مع التمكين من رفع قضايا لحماية الطبيعة، من الغالاباغوس إلى نهر فيلكابامبا. كما تم تفعيل قوانين في بوليفيا والمكسيك ونيوزيلاندا وعلى المستوى المحلي في عشرات البلديات بالولايات المتحدة الأمريكية. في نيوزيلاندا صدرت قوانين استثنائية جديدة تعكس حكمة وثقافة شعب الماوري، فتم منح حقوق لنهر وانغانوي ولنظام بيئي كان يُعرف سابقًا بمسمى "حديقة تي أوريويرا الوطنية". هذه القوانين الفارقة شاعرية وقوية، وقد أعطت الشخصية القانونية للطبيعة. أي أن الغابات والجبال والبحيرات والأنهار أصبحت شخصيات اعتبارية، لها حقوق تدافع عنها هيئات وصاية يقودها شعب الماوري. ولقد صدرت أحكام محاكم مبتكرة إزاء حقوق الطبيعة من كولومبيا إلى الهند، وإن كان تنفيذها في بعض الحالات لم يرق بعد إلى المستوى المأمول.

لتحسين احتمالات إقرار وإنفاذ وإعمال الحقوق للأفراد وللطبيعة، فعلى المعنيين بالبيئة والمدافعين عن حقوق الإنسان أن يتعاونوا أكثر من أي وقت سبق. فالحقوق البيئية وحقوق الإنسان التي ظلت يُنظر إليها بصفتها مفاهيم منفصلة بل ومتعارضة أحيانًا، يجب في القرن الحادي والعشرين أن نراها متواشجة ولا يمكن فصل أحدها عن الآخر.

ففي السيناريو الكارثي الذي قد يؤدي إليه الاحتباس الحراري، مع تدمير هائل في التنوع الحيوي يشتمل على حادث الانقراض الجماعي السادس عبر مليارات السنين، لن تكون حقوق الإنسان سوى ذكرى بعيدة، مع تركيز البشر المتبقين حصرًا على البقاء أحياء. اليوم، نحن بحاجة لكل الجهود الممكن تخيلها لمنع هذا السيناريو الظلامي والكارثي الذي قد يبتلي الإنسانية على مدار هذه الألفية. ومن أفضل تدابيرنا الدفاعية الممكنة في مواجهة سيناريو يوم القيامة هذا، هو أن نكافح بشكل مبدع وبلا كلل وبكل إخلاص من أجل أن تشمل حقوق الإنسان البيئة الصحية والمستدامة، وأن نطالب في الوقت نفسه بحقوق الطبيعة، الكفيلة بحماية أشكال الحياة التي أتاح لنا حظنا الحسن أن نحيا معها وبها.

إننا ورغم جهود العلماء الرائعة التي استعانوا فيها بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، ما زلنا لم نصل إلى كوكب آخر ازدهرت فيه وتطورت عجائب الحياة التي نراها في كوكب الأرض. الحق أن علينا بذل قصارى جهودنا لتحويل البشرية من سبب للدمار إلى قوة بناءة تدعم صحة وسلامة كوكب الأرض، هذا المكان الفريد الذي أتاحه لنا حظنا المدهش. ويمكن أن تقودنا الحقوق نحو مستقبل مستدام لجميع أشكال الحياة.