المحكمة الجنائية الدولية - أهي تهديد أم فرصة لإسرائيل وفلسطين؟

الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية  تستخدمان المحكمة الجنائية الدولية كورقة مساومة في المفاوضات المتقطعة بينهما؛  فكلما تعطلت محادثات السلام، تهدد السلطة الفلسطينية بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وكلما تم طرح هذا الاحتمال،  ترد إسرائيل بالتهديد بالنتائج المترتبة على ذلك. والقيمة التي يمكن أن تكون للمحكمة في تعزيز العدالة والمساءلة - وهي قضايا العدالة والمساءلة بحد ذاتها - غائبة بشكل ملحوظ ضمن هذه اللعبة الساخرة.

إن إسرائيل، شأنها شأن الولايات المتحدة، قد صرحت بأن انضمام فلسطين إلى المحكمة سوف يعرقل أي فرصة لمفاوضات السلام بين الطرفين. وفي حين أن البعض قد يجادل بأن هذا مجرد خطاب يهدف إلى حماية المتهمين الإسرائيليين من العدالة الدولية، غير أن مسؤولين فلسطينيين قد قالوا أيضاً أنهم يعرفون بأن الانضمام إلى المحكمة سوف يقضي على المفاوضات مع إسرئيل. ولذلك، فإن كلا الطرفين يريان في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية سلاحاً سيؤدي إلى القضاء على فلسطين. وبالرغم من الضغط الشديد الذي مارسه المجتمع المدني الفلسطيني، فما زالت السلطة الفلسطينية ممتنعة عن الانضمام إلى المحكمة.

وفي الواقع، فإن إسرائيل نفسها لن تتعرض أبداً للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية؛ فالمحكمة تستند على المساءلة الجنائية الفردية, حيث يتم التحقيق مع الأفراد لا الدول، وإذا اقتضى الأمر، تتم محاكمة المتهمين. ومع ذلك، فإن كل الأطراف محقّة بتعاملها مع أي تحقيق مع متهمين إسرائيليين على أنه ينعكس على الحكومة الإسرائيلية، بل على الدولة الإسرائيلية ككل؛ نظراً لأن الأفعال التي يتم التحقيق فيها، لا يُمكن أن تُعزى إلى بضعة أفراد معينين، بل ظلت لعقود قضية الدولة الرسمية والسياسة العسكرية.

وأولئك الذين يجادلون بأكثر الأشكال إقناعاً بشأن السلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على الجرائم التي ارتُكِبَت خلال النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، يُثبتون أن كلا الطرفين (إسرائيل والجماعات الفلسطينية المسلحة) يجب أن يخضعا للمحاسبة. ينصبّ التركيز مؤخراً على الصراع الدموي الذي جرى الصيف الماضي في قطاع غزة، والذي سقطت فيه أعداد فادحة من الضحايا المدنيين بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية، وكذلك بسبب إطلاق الصواريخ الفلسطينية على إسرائيل.

ولكن، ورغم أعداد القتلى المدنيين الفلسطينيين في غزة هذا الصيف، سيكون من الصعب رفع دعوى قضائية. إن الانتهاكات الجنائية لقوانين النزاع المسلح لا تتحدد فقط، أو حتى إلى حد كبير، بحسب نتائجها، بل تتحدد بنوايا المسؤولين عنها: هل كانت الهجمات تستهدف أهدافاً عسكرية مشروعة؟ هل يعرف الذين أصدروا الأوامر بتنفيذ الهجمات أن مهاجمة هذه الأهداف سوف تسبب للمدنيين أضراراً عشوائية أو غير متكافئة؟ إن منظمات حقوق الإنسان قد قدمت أدلة دامغة بشأن سلوك الجيش الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن وجود جماعات فلسطينية مسلحة بين السكان المدنيين، منخرطة في القتال ضد الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن استهدافها للمدنيين داخل إسرائيل، يعقّد أي قضية جنائية تُرفع ضد القوات الإسرائيلية.


Flickr/Israel Defense Forces (Some rights reserved)

"The presence of armed Palestinian groups within the civilian population, engaging in combat with the Israeli military, as well as targeting civilians inside Israel, complicates any criminal case against Israeli forces."


وبالإضافة إلى ذلك، ووفقاً لقواعد المحكمة المتعلقة بمبدأ التكاملية، فهي لا تستطيع أن تباشر عملها إلا في حال عدم وجود تحقيقات محلية أو ملاحقات قضائية صادقة. وقد بدأت إسرائيل بالفعل بتحقيقاتها الخاصة بشأن وفيات المدنيين في غزة. وفي حين أن مجتمع حقوق الإنسان قد قام بالتوثيق على نطاق واسع أسباب كون هذه التحقيقات معيبة بجوهرها، تبقى حقيقة أنه قد تم إجراء تحقيق جنائي محلي في بعض الحوادث على الأقل.

وعلى النقيض من ذلك، هنالك حالة أوضح بكثير ضمن قتال هذا الصيف، تتعلق بإطلاق جماعات فلسطينية مسلحة لصواريخ وقذائف على تجمعات سكانية إسرائيلية؛ فالأسلحة بحد ذاتها هي أسلحة عشوائية، وقد صرّح قادة عسكريون فلسطينيون في مناسبات عديدة أنهم يعتبرون المدنيين الإسرائيليين أهدافاً عسكرية مشروعة.

لذلك، ليس من الواضح أبداً أن المحكمة سوف تركّز على الأعمال العدوانية على غزة، حتى لو مُنحت السلطة القضائية. وبالفعل، فإن تركيز الاهتمام على قيام محكمة الجنايات الدولية بإجراء ملاحقة قضائية بشأن غزة هو أمر في غير محله. وبرأيي، فإن الملاحقة القضائية الدولية لجريمة المستوطنات في الضفة الغربية، سوف تكون قضية أقوى بكثير.

كجريمة الحرب واليوم، المستوطنات هي أيضاً أهم مصدر لانتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربية.

 إن ميثاق روما الذي تقوم عليه المحكمة الجنائية الدولية يعرّف بوضوح  "...نقل السلطة المحتلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها." كجريمة حرب, واليوم، المستوطنات هي أيضاً أهممصدر لانتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربية. وفي  حين أن هذه تعتبر جريمة غير دموية نسبياً، غير أن هناك غياب كامل لأي علاج محلي لها. وخلافاً لما يتعلق بسلوك قوات الأمن الإسرائيلية، لا توجد هيئة إسرائيلية محلية تحقق في عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية. لقد توفرت لمحكمة العدل العليا  الإسرائيلية فُرص لا تُحصى للبت القضائي في مشروعي المستوطنات، وفي كل الحالات كانت تتهرب أو تتجنب البت في المسألة. والباب مفتوح على مصراعيه للمحاكمة الدولية.

من سيكون متهماً محتملاً في قضية جنائية بشأن المستوطنات؟ القائمة طويلة، حتى إذا تم الأخذ بعين الاعتبار أن قضية كهذه يجب أن تتعلق بالجرائم التي ارتُكبت بعد تاريخ انضمام فلسطين إلى المحكمة. سيكون المتهمون سياسيون، موظفون مدنيون من مختلف وزارات الحكومة، مسؤولون عسكريون، قضاة، شركات خاصة-كلهم متورطون في بناء وتوطيد المستوطنات في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

كيف ستؤثر هذه القضية على مفاوضات السلام في المستقبل؟ أنا لا أعرف الجواب. وكما أشارت مقالات سابقة حول هذا النقاش، فإن الواجهة الرابطة بين العدالة الدولية وحل النزاع ليست مباشرة أو مستقيمة بالضرورة. من المحتمل جداً أن بعض المتهمين على الأقل في هذه القضية سيكونون من ضمن القيادة المشاركة في مفاوضات السلام. ومع ذلك، وبدلاً من الحكم على المفاوضات بالفشل، كما حذرت جهات فاعلة إسرائيلية ودولية، أيمكن في الواقع أن يكون للتهديد بهذه المحاكمة تأثير إيجابي؟ قد يمنح ذلك المفاوضين الإسرائيليين دافعاً له حاجة ماسة، لحل قضية المستوطنات في الساحة السياسية قبل أن تصل القضية إلى الحكم القضائي القانوني.

كما تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد حالياً أي مفاوضات سلام جارية، ولا أي مفاوضات تلوح في الأفق، لذلك، من الصعب أن نرى كيف أن انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية قد يزيد الأمور سوءاً على تلك الجبهة.

في السياق الإسرائيلي الداخلي، كان لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية في بعض القضايا تأثير إيجابي على حقوق الإنسان، رغم أن أحكامها القضائية الفعلية تميل إلى دعم سياسات الحكومة والجيش التي تنتهك الحقوق. والخوف من حكم محكمة العدل العليا يردع الانتهاكات ويشجع التحسينات. ويبدو أن هذه هي الحال أيضاً بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية؛ فمجرد التهديد بانضمام فلسطين إلى المحكمة، جعل إسرائيل تتنبه وتكترث. وإن كان الانضمام إلى المحكمة هو بمثابة نوع من الردع للنشاط الاستيطاني أو للهجمات على المدنيين، فإن المحكمة ستكون قد حققت جزءاً كبيراً من هدف وجودها، حتى قبل أن تبدأ عملها.