المعاهدة الجديدة للأعمال التجارية وحقوق الإنسان لابد أن تتحمل دول

تضع دول "الموطن" نظاماً قانونياً يسمح للشركات بتشغيل عملياتها، ولكن عندما تقرر تلك الشركات أن تنقل أعمالها إلى دول "مضيفة"، يتم تشغيل عملياتها في إطار قوانين الدول "المضيفة تبريهم من أية التزامات أو عواقب قد يتعرضون لها في دول موطنهم. فعادة ما تكون الدولة المضيفة غير عازمة أو غير قادرة على تنظيم الشركات عبر الوطنية بشكل لائق، مما لا يدع مجالاً لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الفعليين أو المحتملين التي قامت بها تلك الشركة للاقتصاص بشكل قانوني.

ولهذا، فمن الضروري أن تقوم دول "الموطن" بضمان تطبيق التزامات حقوق الإنسان على الشركات المحلية حتى وإن قرروا نقل نشاطاتهم وعملياتهم خارج البلاد أو ما يُطلق عليها اسم الالتزامات خارج الحدود الإقليمية (ETOs). ولذا فهو أمر جوهري أن تقوم الأمم المتحدة بتقديم اقتراح لمعاهدة الأعمال التجارية وحقوق الإنسان (وحالياً يُجرى التفاوض بشأنها) تغطي بنودها إلزام دول "الموطن" بتطبيق مبدأ الالتزامات خارج الحدود الإقليمية (ETOs) على شركاتها المحلية.

ومنذ تبني هذه المعاهدة في عام 2011، لم تقم لجنة مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية والمعنية بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان بمناقشة هذا الأمر. بل وعلاوة على هذا، جل ما قامت به خطط العمل الوطنية والمعنية بسن تشريعات من شأنها تنفيذ تلك المبادئ التوجيهية، كان إما حذف أي ذكر لهذه الجزئية أو تضييق نطاق مبدأ الالتزامات خارج الحدود الإقليمية. إلا أن عدد من هيئات الأمم المتحدة قامت بالدفاع عن تلك الالتزامات، لوضع قاعدة قانونية لشملهم في أي معاهدة جديدة.

وبدءً من شهر مارس 2018، قامت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتابعة للأمم المتحدة بإثارة ورفع القضية إلى 5 من التعليقات العامة التابعين لها، بالإضافة إلى تقييم تطبيق معاهدات حقوق الإنسان في دول مختلفة. كما تبعهم أيضاً عدد من الهيئات الأخرى المعنية بالمعاهدة والتابعة للأمم المتحدة باتخاذ خطوات في هذا السياق مثل تعيين عدد من الممثلين الخاصين والخبراء المستقلين من قبل مجلس حقوق الإنسان. وعلى المستوى الإقليمي، قامت لجنة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان (IACHR) بنشر تقرير حول تأثير قطاع الصناعات الاستخراجية على حقوق الإنسان فكان من أحد أسباب دعم وتأييد مبدأ الالتزامات خارج الحدود الإقليمية.

إلى جانب ما سبق، هناك بالفعل عدد من المعاهدات التي تتناول الإرهاب والفساد ورشوة المسؤولين الأجانب والتعذيب والإتجار في البشر – التي تسمح أو تتطلب تنفيذ الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية لمحاكمة بعض الجرائم عبر الوطنية. 

ففي حالات النزاع المدني (القضايا)، لا توجد أية معاهدة متعددة الأطراف تتطلب تنفيذ الولاية القضائية خارج حدود الإقليم بهدف الانتصاف من منتهكي حقوق الإنسان. مادة 14 من معاهدة حقوق الإنسان لمناهضة التعذيب، ولكنها لا تلزم الدول الأطراف في هذه القضايا بمنح الضحايا حقاً بالتعويض قابلاً للإنفاذ، وهذا يشمل حالات التعذيب التي تقع في بلاد أجنبية.

ولكن، بالطبع معايير حقوق الإنسان الدولية بحاجة على حلول أكثر فاعلية للسعي خلفها اقتصاصاً لتلك الانتهاكات. ورغم أن تلك الحلول قد لا تنص صراحة على المحاكمة الجنائية في دول "الموطن" للشركات المتهمة بانتهاكات حقوق الإنسان خارج حدود الإقليم، إلا أن الحد الأدنى يظل إلزام دول الموطن بتمكين الحلول المدنية لمن انتُهكت حقوقهم نتيجة لعمليات التشغيل لبعض الشركات والتي يتم الاضطلاع بها خارج حدود وسلطة دول الموطن. ففي بعض الحالات، قد يتضمن سلوك الشركة الواحدة عدة جرائم دولية، وبالتالي على الدول القيام بالملاحقة الجنائية أيضاً.

علاوة على ما سبق، فبعد مرور ثلاثة شهور على تبني المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، قامت مجموعة من الخبراء الدوليين بتبني مبادئ ماسترخت بشأن التزامات الدول خارج حدودها الوطنية والتي تؤكد على إلزام الدول بمراقبة الشركات متعددة الجنسيات المقيمة في حدود ولايتها القضائية والامتناع عن دعمهم متى اتضح تورطهم كطرف في انتهاكات حقوق الإنسان في بلدان العالم الثالث.

ورغم كل تلك السابقات والخطوات القانونية التي تم اتخاذها، إلا أن تنفيذ المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة من قبل البلاد لا تدعمه أي قوة خاصة في حالة الالتزامات خارج الحدود الإقليمية. وعملية الموافقة على خطط العمل الوطنية لتنفيذ المبادئ التوجيهية – في معظم الدول – والتي لم تشمل إجراء لائق بشأن مخالفة الالتزامات خارج الحدود الوطنية.

وفي يونيو 2016، قام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتشكيل فريق عامل حكومي دولي مفتوح العضوية (IGWG) مُكلّف بولاية إعداد معاهدة دولية ملزمة قانوناً في إطار حقوق الإنسان تُنظم أنشطة الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الأعمال. وفي سبتمبر 2017، قام فريق العمل بنشر مسودة عناصر تلك المعاهدة، والتي اشتملت على قسم واعد بشأن الولاية القضائية والذي جاء مؤكداً على النقاط التالية:

"... وجد أن الأداة الملزمة قانونياً لها إمكانية ضخمة معاونة الشركات عبر الوطنية وغيرها من الأعمال التجارية من الاستفادة بالحدود التي تقييمها الولاية القضائية الإقليمية بهدف التهرب والانفلات من أي محاكمة أو مساءلة محتملة في الدول المضيفة حيث تُجرى عمليات التشغيل. ولذا، فإن ضم مفهوم واسع للولاية القضائية من شأنه أن يسمح لضحايا مثل تلك الجرائم والانتهاكات التي قامت بها الشركات عبر الوطنية أن يحصلوا على حق الاقتصاص القضائي والتعويض إما من خلال جهة التقاضي محل الأذى أو جهة التقاضي التي تتبعها الشركة الأم في موطنها الأصلي أو أينما كان لها حضوراً مؤثراً."

كما شددت عناصر المسودة على أهمية وضع قواعد أكثر وضوحاً لاحتكام الضحايا إلى القضاء لما وقع عليهم من انتهاكات قامت بها تلك الشركات والشركات التابعة لها بعمليات تشغيلها خارج الحدود الوطنية، كما أكدت مجدداً على أن التزامات "الدول الأطراف" فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان لا يتوقف عند حدودها الوطنية"

إذا أخذنا في عين الاعتبار النطاق المحدود للالتزامات خارج الحدود الوطنية والتي لطالما سادت تحت إطار المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، فضم هذه القضايا إلى الحوار المفتوح حول دعاوي معاهدة الأعمال التجارية وحقوق الإنسان لهو أمر ضروري وهام. فهذه المعاهدة تمنح المجتمع الدولي الفرصة لوضع قواعد أكثر وضوحاً في هذا الشأن، بما يتوافق مع معاييرها التي طورتها هيئات حقوق الإنسان الدولية بالفعل. ولابد أن تتصدى تلك القواعد على الأقل، لضوابط التزامات الدول نحو تنظيم نشاطات الشركات المقيمة داخل حدود ولايتها القضائية، والمسجلة بموجب قوانينها و/أو حيث تجرى القسم الأكبر من عمليات الإدارة والتشغيل على أراضيها. من خلال تطوير تلك المعاهدة، سيقوم واضعو المسودة بتوضيح تلك العناصر لضمان اتساقها مع المعايير الموضوعة بالفعل، ومن بينها تلك المنبثقة عن أحكام هيئات حقوق الإنسان الدولية المنشأة.

كما ينبغي أن تضمن المعاهدة النهائية أن الحدود الوطنية لا يمكن أن تكون حاجز غير مبرر أمام مطالبة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بالعدالة والقصاص من جرائم الشركات الكبرى.

لقراءة النسخة المختصرة من فضلك اضغط هنا النسخة المختصرة المنشورة أولاً على منظمة الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.