الاحتجاجات التي تعم أنحاء العالم تطالب الحقوقيين بالتصدي للظلم الاقتصادي

شهد العالم خلال الأسابيع الأخيرة موجة عاتية من الاحتجاجات الجماعية والمظاهرات. ورغم تباين أسباب وسياقات الاحتجاجات المختلفة، فربما يمكن النظر إليها بصفتها جزء من ثورة عالمية ضد اللامساواة المتطرفة والظلم الاقتصادي والنظم السياسية التي تحركه وتؤدي إليه. هناك تيمة نجدها في مختلف الاحتجاجات، وهي الغضب الشديد من إجراءات التقشف، وهي حزمة من سياسات تقليص الديون التي تنفذها حالياً جملة من الحكومات.

في الإكوادور، أجبرت المظاهرات بقيادة جماعات الشعوب الأصلية الحكومة على إعادة النظر في سياسات التقشف التي كانت تتبناها ووافقت عليها أمام صندوق النقد الدولي، واشتملت على الخصم من الأجور في القطاع العام ورفع أسعار الوقود. وشهدت تشيلي خروج مليونيات ضد تدني الأجور وارتفاع تكلفة الخدمات الاجتماعية، وأعلى مستويات اللامساواة الاقتصادية على مستوى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قاطبة. وفي لبنان، يُقدر أن ثلث الشعب خرج إلى الشوارع منذ الجولة الأخيرة من إجراءات التقشف، وزلزلت المظاهرات الحاشدة العراق، وقد خرجت ضد ارتفاع معدلات البطالة وفساد الخدمات العامة وسوء الإدارة الاقتصادية. تأتي هذه الأحداث في أعقاب مظاهرات حاشدة خرجت هذا العام أيضاً ضد التقشف في دول منها الأرجنتين والهندوراس ومصر والسودان وزمبابوي.

لكن ما بدأ في العادة كوقفة تلقائية ضد الظلم المالي، تحول إلى حراك جماعي حاشد ضد اللامساواة الهيكلية الكامنة ورائه.

خرجت العديد من المظاهرات جراء تدابير مالية معينة، مثل فرض ضريبة على تطبيقات الرسائل النصية في لبنان، أو زيادة رسوم المواصلات في سانتييغو، وهي التدابير التي تعتبر دالة على محاولات النخب الحاكمة إلقاء عبء التقشف على العمال والفئات المعرضة بالفعل للإجحاف. لكن ما بدأ في العادة كوقفة تلقائية ضد الظلم المالي، تحول إلى حراك جماعي حاشد ضد اللامساواة الهيكلية الكامنة ورائه. فالناس يرون النظم السياسية فاسدة، تهيمن عليها بعض النخب وهي غير خاضعة للمحاسبة، ويرون النظم الاقتصادية السبب وراء اللامساواة، مع إعلاء أولوية التربح الخاص على حساب الصالح العام. فالمظاهرات في تشيلي ولبنان على سبيل المثال استمرت لمدى يتجاوز إيقاف التدابير المؤذية أو حتى عند مرحلة استقالة مسؤولين حكوميين بارزين، فأصرّت الحركة الاحتجاجية في البلدين على إجراءات اقتصادية وسياسية أكثر جذرية.

هناك سمة مشتركة مقلقة أخرى تمثلت في التعامل القمعي من قبل السلطات، التي تصدت في أغلب الحالات للمظاهرات بصفتها تهديد للأمن العام وليس بصفتها مطالبات بالعدالة الاجتماعية. من كويتو إلى القاهرة، من سانتييغو إلى بغداد، لجأت قوات الأمن إلى استخدام القوة المفرطة، والقتل، وإساءة معاملة المتظاهرين وحبسهم تعسفاً. من المفهوم إلى حد ما إذن أنه عندما تناولت أطراف حقوقية دولية بارزة هذه الاحتجاجات، فقد تناولتها على صلة بالانتهاكات المذكورة. على سبيل المثال، أرسلت المفوضية السامية لحقوق الإنسان فريقاً إلى تشيلي للتحقيق في انتهاكات المعايير الدولية المتعلقة باستخدام قوات الأمن للقوة. وقامت اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان عبر بعثة أرسلتها، بجمع شهادات شهود عديدة حول الانتهاكات في الإكوادور. وأدت العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش عملاً مهماً في توثيق القوة المفرطة ضد المتظاهرين في بغداد وبيروت ودول أخرى. كما كانت انتهاكات قوات الأمن بؤرة التركيز الأساسية - إن لم تكن الوحيدة – بالنسبة إلى مؤسسات حقوقية وطنية مثل المعهد الوطني لحقوق الإنسان في تشيلي ولجنة الدفاع عن الشعب في الإكوادور.

لقد أقرّت كل من هذه المنظمات – بدرجات متفاوتة – بأن المظالم الاجتماعية-الاقتصادية للمتظاهرين تعد بدورها من بواعث القلق المتصلة بحقوق الإنسان. لكن الجوانب الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في هذه الأزمات كانت عموماً في الخلفية، ولم يحدث حتى الآن أن حركت ووجهت هذه الاعتبارات تحليل وتوصيات الأطراف الحقوقية المذكورة.

إن المعايير الدولية لحقوق الإنسان تسري على استخدام الحكومات للسياسة المالية بقدر ما تسري على سياسة الحكومة الخاصة باستخدام القوة.

في حين أن القمع الشديد للحقوق المدنية والسياسية في أعقاب هذه المظاهرات يستحق بكل وضوح المتابعة والرصد العاجلين، فإن الحرمان المزمن من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي حرّكت تلك الانتهاكات يجب أن يتم التصدي له بدوره بصفته من بواعث القلق الخاصة بحقوق الإنسان. إن المعايير الدولية لحقوق الإنسان تسري على استخدام الحكومات للسياسة المالية بقدر ما تسري على سياسة الحكومة الخاصة باستخدام القوة. في حين أن سياسات التقشف تؤدي إلى اتساع فجوة التفاوتات الجنسانية أو العرقية وتدفع بالناس إلى الفقر أو تؤدي إلى تدهور القدرة على التمتع بالرعاية الصحية أو السكن، فهي أيضاً تخرق الالتزامات القانونية الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن إبعاد هذه الانتهاكات إلى هامش اهتمامات حقوق الإنسان لن يؤدي إلا إلى تعميق فجوة المحاسبة التي أخرجت الملايين إلى الشوارع.

إن الاحتشاد الجماعي ضد اللامساواة المتطرفة، مثل الاحتجاج ضد أزمة التغير المناخي وثيقة الصلة باللامساواة، يدفعنا للتفكير في مقاربة متكاملة وشاملة للتعامل مع قضايا حقوق الإنسان التي تشتمل عليها هذه الظواهر، وهي المقاربة التي يجب أن تدفع الفاعلين الحقوقيين أيضاً إلى إعادة التفكير في تجاهلهم التقليدي للنظم الاقتصادية، مع اعتماد نقد مباشر وصريح أكثر للنيوليبرالية وللفكر الاقتصادي السائد. إن المظاهرات تطالبنا بأن نسلط الضوء بقوة على فظائع النيوليبرالية بصفتها حالات حرمان من حقوق الإنسان، وأن نتحدى الأساطير التي تنهض عليها هذه الأيديولوجية وأن نقدم بدائل لها تركز على حقوق الإنسان.

لقد أدت التطورات الأخيرة إلى تدعيم الأسس القيمية والمنهجية لهذا الانتقاد للنيوليبرالية. على سبيل المثال، في وقت سابق من العام، اعتمد مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة المبادئ التوجيهية لتقييم آثار سياسات الإصلاح الاقتصادي على حقوق الإنسان، وهي المبادئ التي نصت على معايير حقوق الإنسان التي يجب أن تكون وراء صناعة السياسات الاقتصادية، وتشمل سياسات الإصلاح المالي. استفادت الوثيقة المذكورة من الخبرات العملية لمنظمات مجتمع مدني مثل مركز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فيما يتعلق بتقييم التقشف وآثاره على حقوق الإنسان في دول عديدة، فضلاً عن أعمال لباحثين اقتصاد تقدميين يستخدمون عدسة حقوق الإنسان في الطعن على المنظور الاقتصادي المهيمن. ركزت هذه الجهود على السياسة المالية بصفتها مدخل مهم للتصدي للظلم الهيكلي، بما أن تقليل اللامساواة وإعمال حقوق الإنسان هي مطالبات لن تتحقق إلا مع إعادة توزيع جذري للموارد والثروة والقوة.

كما أن المقاربات الشاملة للمطالبة بالمحاسبة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تستهدف أيضاً النظر في مسؤوليات المؤسسات المالية الدولية والشركات عن إبقاء الوضع الاقتصادي الراهن على ما هو عليه. لقد بذل مركز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية جهوداً بحثية فيما يخص صندوق النقد الدولي، الذي أدى تواطؤه وتحريضه على سياسات التقشف إلى إزكاء نيران الأزمات في دول عديدة شهدت مظاهرات. على سبيل المثال، في الشهر الماضي ضغط صندوق النقد الدولي على لبنان لفرض تدابير إعادة هيكلة أكثر، وهون من شأن احتمالات اشتداد التوترات الاجتماعية هناك. كما أن المبادرات الجارية لتقنين التزامات حقوق الإنسان على الشركات وتجديد قواعد فرض الضرائب على الشركات الدولية، تعد جبهات مهمة لإخضاع الشركات بشكل منهجي للمحاسبة.

بالطبع فإن ناشطية حقوق الإنسان التي تتحرى نهج متكامل تماماً تحتاج لتجاوز الصياغات القيمية والمطالبات بإصلاح السياسات الدولية. التحدي الذي ينهض في وجه من يعملون على المستوى الدولي هو بناء روابط وصلات أقوى بين قضايا تطوير القوانين والنصوص القيمية، وانتقاد السياسات، والمناصرة في سياقات معينة وبناء الحركة. عليهم دعم جهود نشطاء حقوق الإنسان على المستوى القُطري، الذين يلفتون الانتباه إلى الجوانب الهيكلية وجوانب الحقوق الاجتماعية للأزمات.

لنا أن نتوقع احتجاجات أكثر من هذا النوع على مدار عام 2020، مع بلوغ الانكماش المالي ذروته، وتباطؤ حركة الاقتصاد العالمي، وتضاؤل المساحات التي كانت متاحة للعمل العام. هناك رسالة واضحة تخرج من الشوارع وعلى الفاعلين بالمجال الحقوقي أن يصطفوا خلفها: لا يمكن أن تتواجد الديمقراطية في غياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا السبب، فإن أي حل مستدام للاضطرابات الحالية يجب أن تكون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمحاسبة على هذه الحقوق في القلب منه.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع مركز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.