المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا - تأخير العدالة ومنعها

على الرغم من التحديات التي تواجه المحكمة الجنائية الدولية في السنوات الأخيرة، توجد دعوات متكررة لقضايا جديدة يتم فتحها – في فلسطين والمكسيك وجنوب السودان وأوكرانيا وغيرها الكثير. ومع ذلك، كما يتضح من دور المحكمة في ليبيا، لا يضمن فتح أي تحقيق ملاحقة مرتكبي الجرائم بكل صرامة، أو لا يضمن أن عمل المحكمة سوف يكون له تأثير كبير على تحدي الإفلات من العقاب وعلى منع المزيد من العنف.

ليبيا هي أول قضية تحال إلى المحكمة الجنائية الدولية بإجماع الأصوات في مجلس الأمن الدولي. تم منح المدعي العام للمحكمة تفويضاً مفتوحاً للتحقيق في أي جرائم دولية ارتكبت بعد 15 فبراير 2011. بعد إجراء التحقيقات الأولية، صدرت ثلاثة أوامر اعتقال في مارس 2011 لمعمر القذافي وابنه سيف الإسلام القذافي ورئيس المخابرات في ليبيا عبد الله السنوسي.

تم إنهاء القضية المرفوعة ضد معمر القذافي بعد مقتله. وتم رفض الدعوى ضد عبد الله السنوسي عندما حكمت المحكمة لصالح الطعن على مقبولية البلاغ من الحكومة الليبية، وقررت المحكمة أن ليبيا كانت قادرة بالفعل على تنفيذ الإجراءات الوطنية ضده. القضية الوحيدة المستمرة هي تلك  المرفوعة ضد سيف الإسلام القذافي، والتي أحالتها المحكمة اعتباراً من ديسمبر 2014 إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك بسبب استمرار رفض ليبيا (أو عجزها) لنقله إلى لاهاي.

ومع ذلك، لا تزال تحدث الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في ليبيا، ولكن لا يتم التحقيق فيها بشكل جدي. وقد لجأت الجماعات الفاعلة غير الحكومية المسلحة –المشبعة بشعور من الشرعية الثورية– إلى استخدام العنف وتوجيه مستقبل ليبيا. لدى هذه الجماعات دوافع متنوعة، والعديد منها يتعاون لتشكيل فصائل لتحقيق أهداف مشتركة، ولكن جميع الأطراف مسؤولة عن ارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.


Demotix/Michel (All rights reserved)

The "Flag of Independence" hangs over a Libyan crowd. Can the ICC play a role in protecting hard-earned freedoms from lawlessness and impunity.


في المقام الأول نتيجة للقتال الدائر فيما بين هذه الجماعات الفاعلة غير الحكومية، ذكرت وسائل الإعلام الليبية حدوث ما يقرب من 3,000 حالة وفاة بسبب الصراع في عام 2014 وحده، أغلبها من المدنيين. وقد هاجمت الجماعات المسلحة في عدة مناسبات المستشفيات والمتظاهرين والمناطق السكنية. وقد أصبح أكثر من 390,000 شخصاً مشردين في الداخل منذ تصاعد العنف.

لقد أعلنت كتائب مسلحة مختلفة الولاء لفصائل إسلامية أصولية إقليمية. وقد استولت الدولة الإسلامية على مدن ونفذت تفجيرات انتحارية وقامت بقطع الرؤوس وشن الهجمات على أهداف مدنية مثل الفنادق في ليبيا. أولئك الذين ينتقدون الميليشيات المختلفة غالباً ما يتعرضون للتهديد والخطف والتعذيب والقتل المستهدف. في أحد أيام شهر نوفمبر عام 2014، أطلق عليه اسم "الجمعة الدامية"، تم اغتيال 10 أشخاص على الأقل خلال 24 ساعة، بما في ذلك الناشط توفيق بن سعود البالغ من العمر 18 عاماً. ونتيجة لذلك، اضطر العديد من نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين والمحامين وأعضاء السلطة القضائية إلى الفرار من ليبيا. وقامت السلطة القضائية بتعليق أنشطتها، لأنها رأت أن البيئة عدائية جداً. لم تقام أي محاكمة ناجحة واحدة مرفوعة ضد أي فرد أو جماعة بسبب هذه الهجمات، والذين هم مسؤولون يتمتعون إلى حد كبير بالحصانة من أي مساءلة.

ومع ذلك، على الرغم من هذه الجرائم الجارية، لم يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية أي أوامر اعتقال جديدة أو من المحتمل أن تصدر في المستقبل القريب؛ على الرغم من أن أجهزة الدولة في ليبيا عاجزة عن محاكمة وإدانة هؤلاء المسؤولين، والمحكمة لديها ولاية مستمرة في ليبيا.

 علاوة على ذلك، تم سجن الكثير من الأشخاص بدون محاكمة عادلة. تشير الأرقام الرسمية من وزارة العدل أنه منذ مارس 2014 يوجد 6,200 معتقلاً محتجزين حالياً في سجون تسيطر عليها الدولة، 10% فقط منهم أدينوا بجرائم. ما يقدر بنحو 4,000 سجيناً إضافياً معتقلون حالياً في أماكن احتجاز مؤقتة تسيطر عليها الجماعات المسلحة.اكتشفت مؤسسة ديجنيتي/DIGNITYY (المعهد الدانمركي  لمناهضة التعذيب) أن أكثر من نصف المعتقلين تعرضوا لشكل من أشكال التعذيب أو المعاملة المهينة.

ومع ذلك، على الرغم من هذه الجرائم الجارية، لم يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية أي أوامر اعتقال جديدة أو من المحتمل أن تصدر في المستقبل القريب؛ على الرغم من أن أجهزة الدولة في ليبيا عاجزة عن محاكمة وإدانة هؤلاء المسؤولين، والمحكمة لديها ولاية مستمرة في ليبيا.

وقد اعترف المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بأنه "يوجد بالفعل مؤشرات بأن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ترتكب" في ليبيا، وأن مكتبها "لن يتردد في التحقيق ومحاكمة أولئك الذين يرتكبون الجرائم المنصوص عليها في اختصاص المحكمة في ليبيا بغض النظر عن وضعهم الرسمي أو انتماءاتهم". ومع ذلك، فقد أشارت أيضاً إلى أن" التأثير المشترك لعدم الاستقرار ونقص الموارد" قد أعاق بشكل فعال قدرتها على المضي قدماً في التحقيقات.

وكان رد المحكمة الجنائية الدولية هو تقليل التمويل للتحقيقات بشكل كبير. وقد تلقت ليبيا على مدى العامين الماضيين دعماً مالياً أقل من أي دعم لأي حالة مماثلة تحقق فيها المحكمة في بلد آخر. في آخر ميزانية معتمدة في ديسمبر 2014، تم تخصيص مبلغ 603,000 يورو فقط من أجل إجراء التحقيقات في ليبيا؛ على أساس المتوقع لكل حالة، وهو أصغر مبلغ خصصته المحكمة حتى الآن. وعلاوة على ذلك، فقد أكدت المحكمة أن "السفر غير متوقع" لموظفيها إلى ليبيا في عام 2015.

هذا النهج للحد من الدعم المالي عندما يعاني أي تحقيق بالفعل من النقص في التمويل هو أمر متناقض بشكل واضح. تناقض آخر مماثل هو امتناع المحكمة الجنائية الدولية عن إرسال موظفيها إلى المواقع التي ترتكب فيها جرائم دولية خطيرة لأنها خطرة جداً. وقد نشأت هذه الاستجابات للمواقف الصعبة في كثير من قضايا المحكمة، وهي تكشف المعضلات المتكررة بسبب نهجها في تنفيذ ولايتها.

يوجد بالتأكيد تكلفة سياسية ومالية لفتح أي قضايا جديدة. في مواجهة الإخفاقات والتحديات الأخيرة التي تواجه فعالية المحكمة الجنائية الدولية، فإنها لا تستطيع ببساطة أن تتحمل تكلفة فتح قضية أخرى لا تؤتي ثمارها. ربما يكون تردد المحكمة أمراً مفهوماً. ولكن ذلك يطرح السؤال التالي - ما هي قيمة المحكمة التي تقر باحتمال وقوع جرائم دولية وتفعل القليل جداً للتحقيق فيها ؟ ألا يقوض هذا التردد سبب وجودها في حد ذاته؟

على نحو مخيب للآمال، لا توجد أي محاولة للبحث عن نهج بديل. على سبيل المثال، يمكن أن تعقد المحكمة الجنائية الدولية محاكماتها في ليبيا. هذا من شأنه أن يزيد من احتمال قدرة المحكمة على المضي قدماً بالفعل في إجراءات المحاكمة في قضية سيف الإسلام، وخفض التكاليف السياسية والمالية المرتبطة حالياً بتحديات عملية القبول، وقد يجعل من الأسهل أيضاً العمل جنباً إلى جنب مع جهود المصالحة الوطنية، وقد يفتح مجالاً حيوياً للمدعي العام لإجراء تحقيقات إضافية في الجرائم الجارية.

قد تتوفر فرصة لمثل هذا النهج. لقد فشلت ليبيا في إقناع المحكمة الجنائية الدولية بأن في إمكانها محاكمة سيف الإسلام محاكمة عادلة، واستمرار رفضها تسليمه قد يؤدي إلى تداعيات من مجلس الأمن. وقد يقدم خيار جديد، تم عرضه على الجهات الفاعلة الوطنية، حلاً وسطاً قد يمكنها من حفظ ماء الوجه مع الحفاظ على الرغبة في تحقيق العدالة محلياً. لقد تضاءل إلى حد كبير أي تفاؤل بعد الثورة بالنسبة لقدرات السلطة القضائية للدولة في هذه الفترة الانتقالية. ما تبقى هو مجموعة من السلطات المستعدة ظاهرياً، ولكنها غير قادرة على التصرف، ويأس الجمهور لوضع حد للإفلات من العقاب الجاري الآن. تحتاج المحكمة إلى نهج مختلف لتنفيذ ولايتها لملاحقة الجرائم الدولية في ليبيا، وبذلك تساعد على تحقيق السلام والأمن في البلاد.