التقاضي على حقوق الإنسان تحت نير الاحتلال

مع مرورأكثر من 50  عامًا على احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ومع تزايد عداء المجتمع الإسرائيليّ لقضية الحقوق الفلسطينية، فالعديد من المعنيين بحقوق الإنسان يئسوا من إمكانية إحداث أي تغيير حقيقي عن طريق المؤسسات الإسرائيلية، لا سيما التقاضي للمطالبة بهذه الحقوق في المحاكم.

تعرضت محكمة العدل الإسرائيلية العليا لانتقادات في محلها، على دورها في الحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي. فسجل المحكمة رديء فيما يخص قضايا الاحتلال. فلطالما أعطت المحكمة الضوء الأخضر للحكومة كلما نظرت قضايا تخص مكونات الاحتلال الأساسية، من المستوطنات الإسرائيلية إلى الإخلاء الجبريّ للفلسطينيين، واستغلال إسرائيل للموارد الفلسطينية. وكان هذا هو الوضع القائم حتى من قَبل تعيين وزير العدل الإسرائيلي اليميني المتشدد لقضاة بالمحكمة العليا وبالمحاكم الأدنى درجة ممن يشاركونه نفس القناعات المتطرفة.

لكن لا يزال التقاضي من الأدوات الفعالة القليلة التي يمكن من خلالها إعمال حقوق الفلسطينيين. وبالقياس على ما قاله تشرشل عن الديمقراطية، فالتقاضي المحلي أسوأ استراتيجية للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، لكن الاستراتيجيات الأخرى أسوأ منها.

يقود مركز "هاموكيد" جهود المساعدة القانونية للفلسطينيين تحت الاحتلال، إذ يساعد المركز في مئات القضايا أمام المحاكم الإسرائيلية كل عام دفاعًا عن حرية الفلسطينيين في التنقل وفيما يخص الحق في السكن، وحقوق السجناء، والطعن على قانونية العقاب الجماعي. ونظرًا للمناخ المجتمعيّ والقانونيّ العدائيّ السائد في إسرائيل حاليًا، فمن المدهش أن هذه القضايا قد لاقت معدلات عالية من النجاح. في واقع الأمر، فإن أغلب القضايا التي ساعد فيها المركز خرجت بنتائج طيبة، وأغلبها عن طريق تسوية القضايا خارج المحاكم، وأيضًا من خلال أحكام المحاكم أحيانًا.

بالإضافة إلى النجاحات الفردية، شارك "هاموكيد" أيضًا في جهود التقاضي الاستراتيجي الرامية إلى تغيير  السياسات على مستوىً أكثر اتساعًا.  فنحن نقوم برفع سلسلة دعاوى فردية، كل منها بالنيابة عن شخص يطالب بالانصاف. وفي العادة، تجد المحكمة طريقة لإنصاف الشخص المعني، ثم آخر، ثم آخر، حتى لا يبقى بإمكانها أن تتجاهل إصدار حُكم مبدئي حول الأمر. كان هذا هو ما حدث عام 1999، بعدما رفع "هاموكيد" ومحامين آخرين أكثر من 100 دعوى قضائية نيابة عن فلسطينيين تعرضوا للتعذيب أثناء الاستجواب. وأخيرًا قضت المحكمة العليا بأن "شين بيت"، جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، لا يمكنه استخدام العنف البدني في استجواب الفلسطينيين.

وفي قضايا أخرى قد تلجأ الدولة مثلًا إلى استحداث سياسة "في ظل" القضايا المرفوعة. هذا هو ما حدث بعدما رفع "هاموكيد" سلسلة دعاوى نيابة عن مواطنين أجانب تزوجوا من فلسطينيين وفلسطينيات بالضفة الغربية، دون أن يُتاح لهم وضع قانوني. وفي أعقاب تلك الدعاوى، في 2008، منحت إسرائيل حق لم شمل الأسرة لـ 32 ألف شخص.

ويُظهر نشاطنا الخاص بالمقاضاة في القدس الشرقية مردود التقاضي الاستراتيجي وحدوده أيضًا في سياقنا القائم. فلدى الحكومة الإسرائيلية سياسة تقضي بالحفاظ على "التوازن السكاني" بين اليهود والفلسطينيين بالمدينة، وهي تترجمه إلى جهود للحد من تعداد الفلسطينيين هناك. في عام 1998 كشف "هاموكيد" عمّا وصفه بـ "النقل الهادئ للفلسطينيين" من المدينة، بعد سحب إقاماتهم. فقد سحبت إسرائيل تصاريح الإقامة الدائمة من أكثر من 14 ألف فلسطيني كانوا يعيشون بالخارج لبعض الوقت، بعضهم لم ينتقل إلا بضعة أميال على الطريق إلى الضفة الغربية. وبالتعاون مع منظمات حقوقية أخرى، رفعنا دعوى بالنيابة عن 15 فلسطينيًا متضررًا. وردًا على الدعوى، في عام 2000، أعلنت وزارة الداخلية الإسرائيلية أنه سيتم الكف عن سحب الإقامات إذا حافظ الشخص على "صلة معقولة" بالقدس. يمكن للفلسطينيين الذين فقدوا الإقامة أن يتقدموا بطلب باسترداد الإقامة الدائمة، وتتم الموافقة عليه بعد أن يعودوا للمدينة ويعيشوا فيها عامين.

ليست هذه نهاية القصة بالطبع. فكل عام يمثل "هاموكيد" مئات الفلسطينيين الذين يكافحون لاسترداد إقاماتهم، أو لتسجيل أطفالهم كسكان مُقيمينَ في القدس، أو للحصول على إذن بلمّ شمل الأسرة مع القرين أو القرينة، أو للحصول على خدمات اجتماعية مستحقة لهم. وكل قضية هي في حدّ ذاتها معركة قد تطول لسنوات. ولقد كللت جهودنا بنجاح كبير في عام 2017 عندما أشارت المحكمة العليا إلى فلسطينيي القدس في حُكمَينِ منفصلين بأنهم "سكان أصليين لهم وضع خاص". ولقد أعطانا هذا أدوات سوف نستخدمها في المستقبل في التقاضي للطعن على السياسات الإسرائيلية.

وفي الوقت نفسه، وفيما يتصل بالقيود على الإقامة، تقيد السلطات الإسرائيلية أيضًا حق الفلسطينيين في إنشاء المساكن، وتهدم بيوت الفلسطينيين وتتجاهل تشييد البنية التحتية والمرافق الخاصة بالفلسطينيين في المدينة في حين تستثمر موارد مهولة في توسعة المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية، وكل هذا لمنع أي مظاهر  من شأنها تقويض السيادة الإسرائيلية على المدينة.

يعيدني هذا إلى النقطة التي بدأت بها: الاحتلال هو السبب الجذري لانتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. لن يُنهي التقاضي الاستراتيجي في المحاكم الإسرائيلية هذا الاحتلال. في الواقع الأمر فقد يكون أثره في الاتجاه المعاكس. فالمحاكم قادرة على تنفيس بعض الضغوط التي يتسبب فيها الاحتلال، وفي الوقت نفسه فهي تسمح للمستوطنات الإسرائيلية بالاستمرار، فضلًا عن قمع واستلاب الفلسطينيين، مع استمرار التمييز البيّن ضدهم، بل وحتى تضفي عباءة من الشرعية على هذه التدابير القمعية. ونظرًا لهذا الوضع، فهناك بعض الضغوط باتجاه مقاطعة المحاكم الإسرائيلية تمامًا، وتتعرض منظمات مثل "هاموكيد" لانتقادات جراء مشاركتها فيما يُوصف بكونه ورقة توت العدالة التي تخبئ عورة الاحتلال.

إن المقارنة بين حماية حقوق الأفراد من استراتيجيات التغيير السياسي، في مواجهة السعيّ لإعمال الحقوق الجماعية، هي مسألة فلسفية شائكة. لكن بالنسبة لنا فهي ليست كذلك. "هاموكيد" مركز للمساعدة القانونية وطالما أن فلسطينيين يلجأون إلينا طلبًا للمساعدة القانونية، فنحن مُلزَمون بتقديمها. يجب على نشطاء حقوق الإنسان استخدام كافة الأدوات التي في جعبتهم لمكافحة التمييز وانتهاك الحقوق. ولا شك أن التقاضي الاستراتيجيّ أداة قوية ضمن صندوق أدوات حقوق الإنسان.