النظام من قلب الفوضى: هل الأمم المتحدة صديق أم عدو

بعد عقد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي بمدينة نيويورك، إزدات حدة القلق والتوتر حول العلاقات مع الولايات المتحدة في ظل الفترة الرئاسية لدونالد ترامب. فبالرغم من أن الولايات المتحدة هي العضو الأقوى في الأمم المتحدة وأكبر مساهم فيها، إلا أن مسؤولي الأمم المتحدة ساورهم القلق الشديد حول ما إن كان الرئيس الأمريكي سيشرع في إحدى جولاته من انتقاد وتقريع لمنظمات العالم أم لا، ولكنهم تنفسوا الصعداء بعد أن أثنى بشكل طفيف على دور الأمم المتحدة في حفظ السلام ومساعدة اللاجئين.

إلا أن هذا لم يدم طويلاً، وأعادت نداءات ترامب للسيادة المركزية للدولة في أذهان المحافظين اعتقاد وشكوك قائمة منذ أمد بعيد حول المنظمات الدولية. فطبقاً لاستقصاء قام به مركز بيو للدراسات الاستقصائية في عام 2014، فالغالبية العظمى من الجمهوريين في الولايات المتحدة يعتقدون أن الولايات المتحدة عليها ألا تدع مصالحها تتأثر بعلاقتها مع الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية. وطبقاً لهذا الرأي أو الاعتقاد، فإن الأمم المتحدة هي أداة تستخدمها دول أخرى، ومن بينها أعداء الولايات المتحدة الأمريكية، لكبح وتقييد مصالح الولايات المتحدة.

Flickr/UN Geneva/(CC BY-NC-ND 2.0)(Some Rights Reserved).

The Trump administration has taken up the banner of ensuring that the U.N. serves the United States and its security imperatives.


ولكن هل ترى دول العالم الأمم المتحدة بنفس الصورة؟ كيف ترى الشعوب والأفراد حول العالم العلاقة بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة؟ بالاقتران مع الجمعية العامة للأمم المتحدة قمنا بفحص بيانات استقصائية لحوالي 8,885 شخصاً من 6 دول من جميع أقاليم نصف الكرة الأرضية الجنوبي. وتم إجراء استطلاعات الرأي هذه في الفترة من 2012 إلى 2016، وجاءت ممثلة لدول (المكسيك، كولومبيا، الإكوادور) أو المدن الرئيسية والضواحي الريفية (لاغوس، مومباي، الرباط، والدار البيضاء). وقمنا بالاستعانة بمراكز استقصاء محلية للقيام بهذه المقابلات وجهاً لوجه.

ومن المثير للدهشة والعجب، أن المشاركون في الاستقصاء جميعهم أعربوا عن آراء معتدلة إلى سلبية في دور الأمم المتحدة. وعلى مقياس من صفر (إنعدام الثقة) إلى 1 (ثقة كبيرة)، جاءت النتائج في المكسيك والإكوادور كولومبيا ونيجيريا بشكل تقريبي على جانب الثقة من نقطة المنتصف ( 0.5)، مترواحة بين 0.54 و0.56.  أظهرت مومباي قدراً ضئيلاً من إنعدام الثقة (0.46) والرباط/ الدار البيضاء أظهرا قدراً كبيراً من إنعدام الثقة والشك (0.29) (انظر شكل 1).

هذه النتائج ذات الأرقام المنخفضة ليست بالتأييد المدوي الذي كنا نتوقعه - كما يعتقد المحافظون في الولايات المتحدة – من أن الدول الضعيفة وأعداء الولايات المتحدة يستخدمون الأمم المتحدة لتعزيز قوتهم وتأمين المساعدة الدولية والتضييق على سيادة الولايات المتحدة. وقد كانت النتائج مفاجئة أيضاً حيث أن بعض الاستقصاءات الأخرى، وبالتحديد أحد الاستقصاءات التي قام بها مركز بيو للبحث والدراسات الاستقصائية عام 2013، والذي وجد أن منظور العامة للأمم المتحدة كان أكثر إيجابية. هذا الاستقصاء اشتركت فيه 7 دول في أمريكا اللاتينية و 6 دول أفريقية، ووجد أن المنظور العام للأمم المتحدة كان "إيجابياً".

وتشمل استطلاعاتنا آراء أكثر حداثة، ووجد أن منظور الأمم المتحدة أصبح أقل إيجابية.

raph 1: Average Trust in UN

 

وربما ليس من الغريب أن الأفراد المشاركين في هذه المناطق المحلية أظهروا أيضاً آراء سلبية في حكومة الولايات المتحدة، بمعدل ثقة يترواح بين 0.43 و 0.49 (أيضاً باستخدام نفس المقياس 0-1) في الهند والمكسيك والإكوادور. وجاءت نتائج استطلاع المغرب سلبية 0.24. تم إجراء هذه الاستطلاعات قبل انتخاب دونالد ترامب، والذي أكد حديثه في اجتماع الأمم المتحدةعلى نهج "الولايات المتحدة أولاً" الذي أصاب الحلفاء بالهلع وأكد شكوك المنتقدين. وقد أظهرت استطلاعات أخرى انخفاض الدعم للولايات المتحدة خلال عام 2017. في استطلاعتنا، جاء الدعم من مواطنين من دول داعمة ومؤيدة للولايات المتحدة فاتراً وغير قوي (كولومبيا 0.53، نيجيريا 0.59).

"كلما انخفضت معدلات الثقة في مجموعة ما في الحكومة الأمريكية، وجدنا انخفاض مماثل ومتوازي في الثقة في الأمم المتحدة، بعد تحييد مجموعة متنوعة وعريضة من العوامل."

و أكثر النتائج التي وجدناها إثارة للإهتمام ، كانت أن هناك صلة ورابط إحصائي قوي بين الثقة في الولايات المتحدة والثقة في الأمم المتحدة. كلما انخفضت معدلات الثقة في مجموعة ما في الحكومة الأمريكية، وجدنا انخفاض مماثل ومتوازي في الثقة في الأمم المتحدة، بعد تحييد مجموعة متنوعة وعريضة من العوامل. والعكس صحيح ومنطقي أيضاً: كلما ارتفعت معدلات الثقة في مجموعة ما في الحكومة الأمريكية، وجدنا ارتفاع مماثل وموازي للثقة في الأمم المتحدة.

شكل 2 يوضح حجم الصلة من خلال تحليل الارتباط. تقدر الثقة في الحكومة الأمريكية والأمم المتحدة باستخدام نفس المقياس 0 (إنعدام الثقة) إلى 1 (ثقة شديدة). وعبر الدول الستة/ المدن، في حالة ارتفاع ثقة المشارك في الاستطلاع في الحكومة الأمريكية (عند اقتراب المقياس لأقرب نقطة لرقم 1، يمين الشكل)، نجد معدلات الثقة في الأمم المتحدة 0.62. وعند انخفاض معدلات الثقة في حكومة واشنطن إلى أقل نقطة "إنعدام الثقة" (0 يسار الشكل)، نجد أن المشارك تنخفض ثقته في الأمم المتحدة (بمتوسط 0.45)-  انخفاض ضخم بنحو 17% من النقاط- حتى بعد تحييد مجموعة مختلفة وعريضة من العوامل المواقفية و السيسيو-ديموغرافية.

raph 2: The less you trust the US government, the less you trust the UN

وتعتبر هذه نتائج مفاجئة نظراً لمنظور الرأي العام الأمريكي في الأمم المتحدة. حيث ينظر العديد من المواطنين الأمريكيين إلى الأمم المتحدة باعتبارها معارضة أو مقيدة لقوة الولايات المتحدة، وأظهرت استطلاعاتنا أن الأفراد في الدول الفقيرة يرون عكس ذلك تماماً. ويمكننا أن نستنتج أن العديد من الأفراد في نصف الكرة الجنوبي ينظرون إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة باعتبارهما أصحاب أجندة أعمال مشتركة ومتقدمة. ما يوافق مصالح الولايات المتحدة بالضرورة سيكون في مصلحة الأمم المتحدة، والعكس صحيح.

ما سبب وجود صلة أو رابط بين إنعدام الثقة في الأمم المتحدة والولايات المتحدة؟ بداية، يبدو أن التوجه العام نحو السلطات الأمريكية يؤثر بشكل كبير على منظور العالم إلى الأمم المتحدة، بدلاً من العكس؛ فالولايات المتحدة بشكل جلي أكثر أهمية وبروزاً من الأمم المتحدة على صعيد المشهد العالمي.

وقد يكون ممكناً، ان انعدام الثقة في الأمم المتحدة والحكومة الأمريكية مدفوعاً بانعدام الثقة بشكل عام في المؤثرات الدولية.  ولفحص هذا الأمر بشكل أعمق، علينا شمول مقاييس انعدام الثقة للمشتركين في الاستطلاع في الاتحاد الأوروبي (EU) وصندوق النقد الدولي (IMF) في تحليل إحصائي.

وجدنا أن كلاً من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي أكثر شعبية من الأمم المتحدة والولايات المتحدة في الدول المؤيدة.  وبإجراء تحليل ارتباط، يبدو أن ضم الآراء والتوجهات حول الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لا يمحي آثار انعدام الثقة في الولايات المتحدة وتأثيره في إنعدام الثقة في الأمم المتحدة. بمعنى أن انعدام ثقة المشاركين في الأمم المتحدة مدفوعاً بانعدام الثقة في حكومة الولايات المتحدة، بغض النظرعن رأي ومشاعر المشارك في أي مؤسسة متعددة الأطراف بشكل عام.

ومن الممكن أيضاً أن يكون انعدام الثقة في الأمم المتحدة مدفوعاً بخوف من تمحيص ومراقبة حقوق الإنسان بشكل غير مرغوب فيه، والذي تقوده في الغالب الولايات المتحدة كما حدث في الحكومات السابقة.  وقد يخيل للمرء أن يكون هذا صحيحاً في مناطق تقلقها وتزعزعها الحرب مثل كولومبيا ونيجيريا، إلا أن استطلاعتنا أظهرت أن المشاركين بوجه عام يثقون بشكل إيجابي في منظمات حقوق الإنسان، على عكس آرائهم في الأمم المتحدة. وعند ضم "الثقة في منظمات حقوق الإنسان" إلى تحليل الارتباط، نجد أن العلاقة بين انعدام الثقة في الحكومة الأمريكية المتوافق طردياً مع انعدام الثقة في الأمم المتحدة لا يزال قائماً.

هذ العلاقة بين الأمم المتحدة - الولايات المتحدة، نعتقد أنها منبثقة عن رأي المشاركين في الأمم المتحدة كأداة للتدخل بقيادة العضو الأكثر سيادة، وهو الولايات المتحدة. وبالنظر إلى دور الأمم المتحدة في أفغانستان والعراق في العقد الماضي، ودورها المتنامي في محاربة الإرهاب على الصعيد العالمي، يرى شعوب نصف الكرة الجنوبي للأمم المتحدة من منظور التدخل الاستعماري، بالرغم من دور الأمم المتحدة البارز في محاربة الاستعمار في الستينات والسبعينات.

وجود صلة بين انعدم الثقة في الأمم المتحدة والولايات المتحدة أمر مثير للدهشة، حيث أنه  يناقض تماماً المنظور السائد في الولايات المتحدة بأن الأمم المتحدة تعمل في اتجاه مناهض لمصالح الولايات المتحدة وفي صالح الأزمات العالمية، خاصة في النصف الجنوبي من العالم. ولذا، تقترح العينات التي حصلنا عليها من دول حول العالم، أنهم يرون أن الأمم المتحدة تعمل على تعزيز مصالح الولايات المتحدة وليس في مواجهتها.

لقد رفعت إدارة ترامب شعار ضمان عمل الأمم المتحدة لصالح الولايات المتحدة ومتطالباتها الأمنية، موضوع استحضره دونالد ترامب في خطابه الافتتاحي للجميعة العامة للأمم المتحدة في 19 سبتمبر. وكان من الممكن أن يضيف أنه يأمل ألا يُنظر للأمم المتحدة باعتبارها أداة لتعزيز أهداف ومصالح الحكومة الأمريكية لتعزيز شرعية المنظمة. فمنظمة الأمم المتحدة لابد لها من التمتع بالحد الأدنى من دعم العامة لذا عليها العمل لتحسين هذه السمعة المتدنية أو السلبية تماماً.

 

تم نشر هذه المقالة لأول مرة في مؤسسة بروكينغز.