ما الذي تخبرنا به الثورة الفرنسية عن تاريخ الحقوق الاجتماعية؟

/userfiles/image/Walton_Image-07-09-21.jpg

على مدار السنوات الأربعين الأخيرة، أصبح من الشائع الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية بصفتها "حقوق الجيل الثاني"؛ أي الإضافات الأخيرة إلى الحقوق المدنية والسياسية التي قدمها عصر التنوير الأوروبي. هذه النظرية "الجيلية" ظهرت في السبعينيات من القرن العشرين بصفتها وصفة مختصرة لتصنيف الحقوق، لكن سرعان ما اكتسبت زخماً كبيراً في ذاتها. هذا أمر مؤسف، لأنه يحجب تاريخاً أعمق وأكثر أهمية للحقوق الاجتماعية.

مثل الحقوق المدنية والسياسية، فإن الحقوق الاجتماعية تمتد بجذورها إلى القرن الثامن عشر، ويُرجح أنها تعود إلى أزمان أبعد. على مدار القرون الوسطى وعهود الحداثة المبكرة، كان الفقر ظرفاً قانونياً ينطوي على ضرورة مساعدة الفقراء. من المفارقات أنه أثناء عهد التنوير فقدت الحقوق الاجتماعية الكثير من مشروعيتها. لا وثيقة الحقوق الإنكليزية لسنة 1689 (التي خرجت من كنف الثورة المجيدة) ولا وثيقة الحقوق الأمريكية لعام 1791 (التي دُشنت بعد الثورة الأمريكية) أقرت بهذه الفئة من الحقوق.

تبرز الثورة الفرنسية بصفتها استثناء على القاعدة، وهو استثناء كبير. تظهر الحقوق الاجتماعية بوضوح في إعلان الحقوق اليعقوبي لعام 1973، الذي دُشن مع انحدار الثورة إلى عهد "الإرهاب". لكن هذه الحقوق تم اقتراحها في عام 1789، قبل ظهور اليعاقبة وطبقة السان-كولوت إلى الوجود. بل لقد تم اقتراحها من قبل أفراد يعتبرون من المحافظين أو الليبراليين المناصرين للسوق الحرة بمعايير اليوم. 

على سبيل المثال، هناك الحقوق التي اقترحها بيير صامويل دوبون دي نيمور، وهو مُنظر لحرية التجارة ومستشار وزاري تابع للويس السادس عشر، وهو السلف المباشر لعائلة دوبون الأمريكية، التي مولت المراكز البحثية النيوليبرالية في أواسط القرن العشرين. لقد أعلن أن "لجميع البشر حق في المعاونة من البشر الآخرين" وأن المجتمع "عليه دين مقدس" يتمثل في إتاحة العمل لمن يمكنهم العمل وإعانة من لا يمكنهم العمل. لكنه كان يعتقد أيضاً أن أفضل سياسة "رفاه" أو ضمان اجتماعي في جعبة الحكومة هي إنفاق القليل وترك رأس المال والعمل يقودان الاقتصاد (دع الشعب يعمل).

لفهم هذا التناقض الظاهري، علينا أن نحي جانبا تصوراتنا القائمة حول دولة الرفاه (دولة الحماية الاجتماعية). إن الحقوق الاقتصادية التي قدمها دوبون تعبر عن اعتقاده بأن المجتمع المتجدد يمكنه أن ينظم نفسه بنفسه أخلاقياً واقتصادياً. ما إن يتم تأمين الملكية (وصفها بحقوق الملكية) وطالما الأسواق حرة (نتيجة لضمان الملكية)، فسوف تأتي الرفاهية والرخاء. في رأيه تستوجب الحقوق الاجتماعية توفر واجب العمل وتقديم المساعدات الخيرية، لكن هذه مسؤوليات الأفراد، وليست من ضمن مهام الدولة الخاصة بإعادة التوزيع المالي.

ورغم الدعم الكبير لهذه الحقوق، فلم يتم إضافتها إلى المسودة النهائية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789. لكن نسخة دوبون الليبرالية من الاقتصاد كانت واسعة التقبل والانتشار وشكلت السياسات الثورية المبكرة، وكانت النتائج كارثية. كلما زاد تحرير الاقتصاد، قل استقرار الأوضاع. بعد أن سقط النظام الملكي وأعلنت الجمهورية في 1792، أصبخ على الثوار صياغة دستور جديد. جاءت دعوات إضافة الحقوق الاجتماعية من كافة الأرجاء، من السان-كولوت الراديكاليين الذين طالبوا أيضاً بفرض الرقابة على الأسعار، إلى المعتدلين في المؤتمر الوطني، الذين كانوا حتى ذلك الحين يرون أن الحرية الاقتصادية ستعالج مشاكل الحرمان والفقر. بل وحتى القساوسة الكاثوليك من الثورة المضادة تبنوا الحقوق الاجتماعية حينئذ.

هذا الإجماع على الحقوق الاجتماعية كان يطفو فوق انقسامات عميقة حول كيفية تمويل إتاحة هذه الحقوق. فدستور 1793 الذي ضم الحق في العمل والإعاشة والتعليم جعل "المجتمع" هو حامل المسؤولية. لكن ما معنى "المجتمع"؟ الإجابة متروكة للتفسير.. لكل فرد على هواه. هل يشير المفهوم إلى الأفراد الخيرين أم إلى دولة تتولى إعادة التوزيع المالي؟

مع غياب الوضوح، تولى المسؤولون الأمر بأنفسهم. فرضوا الضرائب وضموا الممتلكات وابتزوا الأفراد على هواهم وبحسب الظروف وتقلب الأحوال. مع امتلاء السجون "بأعداء الشعب" ومع انتشار المقاصل عبر المدن الفرنسية، أصبح الدستور اليعقوبي مرتبطاً بالإرهاب والرعب. ما كانت في جذورها مشكلة إعادة فهم التزامات المجتمع المراعي للإخاء، أعيد صبها في قالب "مشكلة" مشاكل الحقوق الاجتماعية. وعندما صيغ دستور جديد أثناء الارتدادة المحافظة في عام 1795، تم حذف الحقوق الاجتماعية تماماً.

على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، راح الجمهوريون يقبلون بشكل متزايد لاعتماد تدابير اجتماعية مؤقتة ومرتجلة، لكن في سياق كونها مسألة تصريف للأعمال الحكومية، وليس كمسألة حق ومبدأ. أليكسيس دي توكفيل قد هذا الفارق بوضوح في كلمة أمام الجمعية الوطنية للثورة في عام 1848. في مواجهة الاشتراكيين، جاء إلهامه من ثورة 1789، وكانت أهدافها الاجتماعية – كما أكد – مقتصرة على "تقديم المساعدات الخيرية وضمها إلى السياسة". في ظل المساعدات الخيرية، لا حق للحاصلين على المساعدة على من يقدموها. "لا شيء [في ثورة 1789] يمنح العمال الحق في مواجهة الدولة [...] لا شيء يصرح للدولة بالتدخل في الصناعة، وفرض قيود عليها". الاشتراكيون من جانبهم كانت التزاماتهم قليلة للغاية – إن وجدت – إزاء الحقوق الاجتماعية. رأى الكثيرون حقوق الإنسان لا تزيد عن كونها فخ نصبته "البرجوازية". مثل الليبراليون أنصار السوق الحرة في عصر التنوير، كان رأيهم يتمثل في وجود مجتمع ينظم نفسه بنفسه أخلاقياً واقتصادياً. لكن على النقيض من الليبراليين، لم يستخدموا لغة الحقوق في التعبير عن هذا الرأي.

وبناء على جملة من العوامل، عاودت الحقوق الاجتماعية الظهور في القرن العشرين، إذ ظهرت في دساتير أوروبا والأمريكتين: في المكسيك (1917)، وألمانيا (1919) وأيرلندا (1922، 1937) والاتحاد السوفيتي (1936) ودول أخرى. وفي كلمته الشهيرة في عام 1944 طالب فرانكلين ديلانو روزفلت بـ "وثيقة حقوق ثانية"، تشمل الحق في عدم التعرض للعوز. ترأست إليانور روزفلت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والتي ضمت الحقوق الاجتماعية إلى مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. ورغم تزايد الإقرار بالحقوق الاجتماعية، ظلت مثار خلاف، لا سيما بعد بداية الحرب الباردة. أعتقد أن الثورة الفرنسية قادرة على تسليط الضوء على الأسباب.

إن إخفاق الثوار في الاتفاق على شروط ملزمة في عام 1793 (من يدفع وبناء على أية شروط؟) هو سبب قوض من الحقوق الاجتماعية، إذ يسّر من تبني الرأي القائل بأنها – هذه الحقوق – تؤدي إلى العنف والاضطهاد (الإرهاب). الكثير من الحجج ضد الحقوق الاجتماعية في القرن العشرين ترجع إلى عوامل نراها في أعقاب عهد الإرهاب الفرنسي، عندما رفض الليبراليون الحقوق الاجتماعية نظراً لمخاطر السلطوية المنطوية عليها. في كتابها "عن الثورة" (1963) توصلت حنا أرندت إلى أن محاولات تسوية السؤال الاجتماعي عبر السبل السياسية – "حقوق السان-كولوت" – مسألة ستؤدي لا محالة دائما إلى الرعب والإرهاب. ردد رأيها هذا أيضاً آري نايير أول مدير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، في مذكراته الصادر عام 2001، إذ قال: "السلطوية على الأرجح شرط مسبق لتقديم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".

بالنسبة إلى منتقدي الحقوق الاجتماعية، تلوح الثورة الفرنسية في الأفق كحكاية تُردد للتحذير من الخطر. لكن لعل الدرس الحقيقي المستفاد هو مدى أهمية – وصعوبة – تحقيق الإجماع على شروط تقديم الالتزام الاجتماعي في المجتمع بناء على المساواة لا الهيراركية. الحقوق الاجتماعية ظهرت في القرون الوسطى وفي حقب الحداثة المبكرة، ولقد تعثرت عبر مرحلة الحداثة. بدلاً من اعتبارها مسألة ساذجة أو خطرة، فالأفضل أن نفكر بشكل أعمق في عقدنا الاجتماعي القائم – حول ما يدين به الأحرار لبعضهم البعض كأعضاء يتمتعون بالمساواة في المجتمع. ومن حيث الممارسة، يعني هذا تكرار ما فعله المؤرخ روتجر بريغمان في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2019، عندما ميّز أمام جمهور من المليارديرات بين العمل الخيري ("مخططات العمل الخيري الغبية") والضرائب. وفي النهاية، لا تعتمد الحقوق الاجتماعية على حب الغير بل على الالتزام بأن يدفع المرء نصيبه العادل المترتب عليه.