العنوان: هل سيستمر التمويل الأجنبي لمن يدافعون عن الفلسطينيين داخل إسرائيل؟

إن إسرائيل حالة خاصة للعمل والتمويل في مجال حقوق الإنسان.  بدايةً، هي مجتمع غربي في منطقة غير غربية، والمجتمعات  التي على "الحدود" منها فريدة دائماً. كما أن إسرائيل عضو في منظمة التعاون والتنمية في الاقتصاد (OECD)، وتراثها السياسي ومؤشراتها الاقتصادية هي أقرب إلى دول الاتحاد الأوروبي من أي جزء آخر من العالم. بقية الشرق الاوسط، بما فيها الفلسطينيون غير المواطنين، هم جزء من الجنوب من حيث المؤشرات الاقتصادية ولهم تقاليد سياسية ومؤسسات خاصة بهم هي الأقرب إلى الدول الأخرى ذات طبيعة ما بعد الاستعمار.

ثانياً، تورط إسرائيل في احتلال طويل الأجل لمجتمع غير غربي - الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. ثالثاً، المجتمعان الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي، في حالة من الصراع المستمر الذي يتصاعد في العقود الأخيرة كل بضع سنوات حتى أصبح من الأعمال العدائية المسلحة، والتي أودت بحياة الآلاف من الجانبين. وغالباً ما يكون العمل في مجال حقوق الانسان - ولا سيما في نظر الجمهور الإسرائيلي - "انحياز" للعدو في الصراع، أكثر من أي شيء آخر، باعتباره في الأساس نشاطاً سياسياً. في السنوات الاخيرة، اتخذت منظمات حقوق الانسان دوراً رائداً في توثيق وتحدي انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث تحت الاحتلال؛ وفي الوقت نفسه، انتقاد عملهم ومحاولة تحديد  مصادر تمويلهم أزدادت بدرجة كبيرة كذلك.

من أجل النقاش، فإن هذه المقالة سوف تركز على منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التي تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، أفم. ).

أصول حركة حقوق الإنسان الإسرائيلية

بعد أندلاع الانتفاضة الأولى  في عام 1987، بدأت رابطة الحقوق المدنية في إسرائيل (ACRI) تركز على الأراضي المحتلة. وفي نفس الوقت، شكل عدة نشطاء سياسيين منظمة بتسيليم - وهي منظمة حقوق إنسان متخصصة في انتهاكات الضفة الغربية وقطاع غزة (وبالتالي لا تزال تحت الحكم الإسرائيلي). وبسرعة صُورت كلتا المنظمتين في الحوار الوطني باعتبارهما " مؤيدون للفلسطينيين"، ومن ثم على خلاف مع سياسات الحكومة الإسرائيلية. وكان ذلك أيضاً موقفاً مشتركاً من السياسيين والمعلقين على الأحداث من التوجهين اليميني واليساري على حد سواء - حتى الذين يفتخرون بالديمقراطية الإسرائيلية والمكانة الخاصة التي تتمتع بها حقوق الإنسان في المجتمع. فرئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين كان قد أطلق على رابطة الحقوق المدنية في إسرائيل (ACRI) رابطة "حقوق حماس".

ومع انهيار عملية السلام، والانتفاضة الثانية (أكتوبر 2000) شهد العقد الذي تلاهما ظهور مجموعة كبيرة من المنظمات غير الهادفة للربح التي تستخدم الدعوة، والالتماسات للمحاكم، وحملات التوعية العامة وتكتيكات مشابهة لإبراز ومعارضة آثار الاحتلال على المجتمع المدني الفلسطيني. واليوم، هذه المنظمات، من بين أمور أخرى، تتعامل مع الحقوق القانونية للفلسطينيين (منظمة ييش دين)، مساءلة قوات الدفاع الإسرائيلية IDF (منظمة كسر الصمت، ومنظمة بتسيليم)، هدم المنازل (حاخامات من أجل حقوق الانسان، اللجنة المناهضة لهدم المنازل)؛ التعذيب (اللجنة العامة لمناهضة التعذيب)، حرية التنقل (منظمة مسلك، منظمة لا للحدود)؛ رصد بناء المستوطنات (السلام الآن - حركة شعبية تحولت إلى منظمة غير ربحية)، تعزيز الحوار، والعديد من القضايا الأخرى. حيث أصبحت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية مصدراً رئيسياً للمعلومات المحلية والدولية للسياسيين والصحفيين وغيرهم من المهنيين الذين يتعاملون مع هذا الصراع. وهذه المنظمات تعتبر أيضاً جزءاً من المعارضة السياسية بسبب مواقفها من القضية الأكثر سيطرةً على السياسة الإسرائيلية في العقود القليلة الماضية. 

من أين يأتي التمويل

معظم التمويل لأنشطة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى داخل إسرائيل، يأتي من مصادر خارجية. ذلك لأن الحكومة الاسرائيلية لا تدعم عمل حقوق الانسان على القضية الفلسطينية وتبرعات  قطاع الأعمال والمواطنون محدودة للغاية. ومن الجدير بالذكر أن التبرعات إلى جميع أنواع المنظمات غير الحكومية  في إسرائيل منخفض نسبياً. أكثر من نصف ال27 مليار دولار التي ذهبت للمنظمات غير الهادفة للربح الإسرائيلية في 2010 جاءت من الحكومة، و فقط 1 إلى 3 في المئة من هبات خاصة.  فهذا القطاع الذي لا يستهدف الربح هو ظاهرة جديدة نسبياً في إسرائيل والذي يمكن، إلى حدٍ ما، أن يفسر غياب تراث الأعمال الخيرية.

فإذا كان الإسرائيليون سيتبرعون لقضايا حقوق الانسان، يفضلون على ذلك التبرع للقضايا البيئية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق مثلي الجنس وغيرها من القضايا التي لا تتصل مباشرة بالصراع.  فرؤساء المنظمات غير الربحية المعنية بحقوق الإنسان الذين تحدثت إليهم اعترفوا بصعوبة بالغة في جمع الأموال "للقضية الفلسطينية" من الإسرائيليين الذين ينظرون إلى عمل هذه المؤسسات على أنها تخدم مصلحة "الطرف الآخر" في النزاع. ولكم من المانحين الدوليين، قيل لي أن الأمر على العكس تماماً: فمن المرجح أن يعطوا منحاً أكثر للمنظمات التي تتعامل مع بناء السلام أو الدفاع عن حقوق الفلسطينيين تحت الاحتلال. والنتيجة هي الإحساس العام بأن عمل حقوق الإنسان على القضايا الفلسطينية قد يعد من أمور "التدخل الأجنبي". بعبارة أخرى، فإن الحاجة إلى الاعتماد (في الأغلب) على التمويل الأجنبي أصبح تحدياً لصورة المنظمات وقدرتها على العمل بحرية. وفي نفس الوقت، وطالما استمرت اسرائيل في الصراع مع الفلسطينيين، فإن احتمال دعم محلي  رئيسي لمنظمات حقوق الانسان لا يزال منخفضاَ نسبياَ.

فالعديد من منظمات حقوق الإنسان تدعمها المنح من حكومات أجنبية، بما في ذلك الاتحاد الاوروبي، ووكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة USAID، ومنح وبرامج مختلفة تديرها حكومات مختلفة. الحكومات الاسكندنافية نشطة تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص كما أن هناك خمسة منح سياسية ألمانية عاملة في إسرائيل تدعم مختلف القضايا السياسية. أما المصدر الرئيسي الآخر لتمويل مجتمع حقوق الانسان هو الجهات المانحة الخاصة، ومعظمهم من أعضاء يهود الشتات.

وطوال تاريخ اسرائيل، أيد يهود الشتات كل أنواع المشروعات والمؤسسات - من الجيش إلى الرياضة إلى المجتمع المدني. ومع ذلك، فإن مجتمع حقوق الإنسان يعتمد على دعم اليهود أكثر من أي عناصر أخرى في المجتمع الاسرائيلي، بسبب عدم وجود دعم من الحكومة أو أي شكل آخر من أشكال التمويل المحلي.

مهاجمة الجماعات الحقوقية الإسرائيلية  في كثير من الأحيان لدفاعها عن "الجانب الاخرفي النزاع

A man in an Israeli flag looking at participants of the Human Rights March in Tel Aviv. Oren Gutman/Demotix. All rights reserved 

شهدت السنوات الأخيرة جهد منظم من اليمين الإسرائيلي لمهاجمة أو تحديد مصادر تمويل منظمات حقوق الانسان. وقد فعلوا ذلك بطريقتين: أولاً، بمحاولة إدخال قيود قانونية على دعم المنظمات الإسرائيلية؛ وثانياً، بشن حملات لترويع المانحين من القطاع الخاص، ولا سيما (ولكن ليس فقط) من يهود الشتات.

في يناير 2010، شنت منظمة غير ربحية لها علاقات قوية باليمين السياسي تسمى Im Tirzu  حملة رفيعة المستوى ضد منحة إسرائيل الجديدة (NIF) - وهي منظمة ليبرالية صهيونية تدعم قضايا حقوق الانسان في إسرائيل قرابة الثلاثين عاماً. وفقاً ل Im Tirzu، فإن المنظمات التي تدعمها المنحة (NIF) كانت وراء  تقرير غولدستون عام 2009 الذي اتهم جيش الدفاع الاسرائيلي IDF بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وحتى جرائم حرب خلال الاجتياح الإسرائيلي لغزة عام 2008.  هذه الادعاءات كان لها تأثير حاد  على صورة المنحة (NIF) في إسرائيل.

في السنوات الأخيرة، بدأت عدة منظمات غير ربحية يمينية أخرى - ممولة أيضاً من الخارج، في الأغلب من اليهود والمسيحيين الداعمين للفكر الصهيوني - بنشر تقارير عن أنشطة "لمناهضة إسرائيل" من أعضاء منظمات حقوق الانسان. وشملت هذه الأنشطة: التحدث المناهض للسياسات الإسرائيلية في بلد أجنبي، ضدالصيونيه ، دعم مقاطعة المؤسسات التي تدعم الاحتلال وإسرائيل ككل وغيرها من الأشكال الأخرى للأنشطة السياسية. لم يكن الهدف الحقيقي للعديد من هذه التقارير المنظمات، بل الممولين لهم.

في عام 2010، عرض أعضاء الكنيست من اليمين مشاريع القوانين الرامية إلى الحد من تمويل الحكومات الأجنبية لمنظمات حقوق الانسان، سواء عن طريق فرض الضرائب الباهظة عليهم أو حظر أنواع معينة من الدعم تماماَ. وخشية حدوث رد فعل عالمي لذلك، استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سلطته لمنع تمرير تلك التشريعات. ومع ذلك، ففي الأشهر الأخيرة الماضية، تم عرض مشاريع قوانين مماثلة مرة أخرى من أعضاء الكنيست من اليمين.

اتجاه الاهتمام والتمويل نحو القضايا الحقوقية العالمية والاقليمية

إنه من الصعب جداً تقدير أثر هذا النوع من الهجوم على العمل في أوساط حقوق الإنسان.

فالعديد من المنظمات، بما فيها NIF، قد شهدت بالفعل نمواَ في الدعم المالي من القطاع الخاص، ولا سيما بعد أسوأ الهجمات (بعض الصور من قبل Im Tirzu المرددة لصدى الدعاية لها كمعادية للسامية، مما أدى إلى زيادة منح صغار المانحين لإظهار دعمهم المتزايد ل NIF). وفي نفس الوقت، أدخلت الجهات المانحة والممولة مبادئ توجيهية أكثر صرامة لأنشطة حقوق الانسان وقامت  برصد الدعوة والعمل السياسي عن كثب. حتى نشأ بين كلاً من  المنظمات والممولين خوف متزايد من خطوة أو بيان "خطأ" قد يعرضهم إلى مزيد من الهجمات.

وإن لم يكن ذلك علانية، يبدو أيضاً أن بعض المانحين أصبحوا أكثر تردداً الآن في التورط  في الشأن الإسرائيلي/الفلسطيني. قد يكون ذلك نتيجة شعور بدوام الوضع الراهن وعدم وجود عائد على الاستثمار في شكل تغيير فعلي، ولكن هذا العداء كما لاحظوا أيضاً يلعب دوراً ما، ولا سيما في التمويلات القادمة في الولايات المتحدة. فقد أنهى تمويل واحد على الأقل من التمويلات الرئيسية في الولايات المتحدة التي  تدعم قضايا حقوق الإنسان برنامجه في إسرائيل مؤخراً. كما قرر صندوق آخر، كان قد بدأ برنامجاً تجريبياً مع بعض منظمات حقوق الانسان، الانسحاب في اللحظة الاخيرة؛ حيث زعمت الشائعات بأن الضغوط والمخاوف السياسية لعبت دوراً في قراره.

بالإضافة أيضاً للعديد من التطورات الأخرى التي تمثل تحدياً لمجتمع حقوق الانسان في إسرائيل، يصف البعض هذا التحول باعتباره أزمة  محتملة في الجماعات الإسرائيلية لحقوق الانسان، فيما يقول آخرون أنها مجرد "مرحلة".  فجيل جديد من الممولين اليهود قد تحول انتباههم إلى مسائل حقوق الانسان العالمية بدلاً من تلك المرتبطة بالمجتمع اليهودي أو إسرائيل. فالحكومات وصناديق التمويل التي تهتم اهتماماً خاصاً بالشرق الأوسط تركز الآن على الربيع العربي وبناء الديمقراطية في أجزاء أخرى من المنطقة، حيث يشعر بعضهم أنه من المكلف جداً أو الصعب إحداث أي أثر على القضية الفلسطينية. أحد أهم صناديق التمويل العاملة في المنطقة قررت تجنب التزامات جديدة في إسرائيل في الوقت الحاضر.

آفاق المستقبل

على الرغم من الجولة الجديدة من محادثات السلام، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يبدو بعيداً عن الحل الآن أكثر من أي وقت مضى، كما أن العديد من التيارات على أرض الواقع أصبحت مقلقة - من نمو المستوطنات إلى انخفاض دعم السلام والتعايش من كلا الجانبين. في السنوات الأخيرة، وجد المراقبون اهتماماً متجدداً في الجوانب المتعلقة بحقوق الانسان من الصراع وليس فقط العملية الدبلوماسية. فمن خلال ما لديه من تقنية مبتكرة والتزام بالمعايير المهنية العالية، قام مجتمع حقوق الإنسان الإسرائيلي بدور رائد في هذه المحادثة. ومع ذلك، فهذا المجتمع نفسه في مفترق طرق مواجهاً الضغوط الداخلية والهجمات المستمرة وخطر فقدان بعض من الدعم الدولي في أكثر وقت تحتاج إليه. إنها لحظة لطرح فكر جديد وحتى لبذل جهود متجددة للتحول لدعم سياسي ومالي على حد سواء للمجتمع اليهودي الإسرائيلي المحلي.